فيسرني، بدءًا، أن أترحم على فقيد العلم والثقافة والإبداع الرّاحل العزيز فقيدنا جميعًا الشّاعر الأديب عبد العزيز سعود البابطين، الذي غادرنا بجسمه قبل عام وسوف يظل بيننا دائمًا. إنّه مؤسس المؤسّسة ورئيسها السّخي الجاد المثابر المؤمن بالعربيّة وموروثها قديمه وحديثه. فقد أنجزت بمثابرة مؤسسها وصَمْده وبذله اللامحدود مالا قِبَل به لأية مؤسسة، وهو ما يتابعه نجله الكريم الأستاذ سعود وآل البابطين الكرام كافة بعزمٍ وصدقٍ واقتدار وفاءً للفقيد الرّاحل والسّير على نهجه.
لقد حقّقت المؤسسة في حراكها الثقافي العربيّ والإسلاميّ والدوليّ في غير بلد زادًا وفيرًا من الإنجازات الثقافيّة والفكريّة والحضاريّة والعمليّة والتعليميّة والإنسانيّة تؤود بحمله وزارات ومؤسسات أهليّة في الوطن العربيّ وخارجه؛ وهذه، وأيم الله، مأثرة ما بعدها مأثرة وفضيلة لا تدانيها فضيلة. فما أكثر المؤسسات التي تبدأ يانعة ثم تذبل وتتوانى وقد تتوقف إلاّ هذه المؤسسة التي جعلت فسائل شجرتها الأُم الكبيرة تترى، ويقود إنجاز فيها إلى إنجاز ومشروع إلى مشروع.
– 2 –
إن المقام لا يتسع لبسط إنجازات هذه المؤسسة الزاهرة والإشادة، بحقّ ودون مجاملة، بفضل رئيسها الرّاحل ودوره. فقد انعقدت صلتي بها وبه منذ العام 1994 أي بعد خمس سنوات على تأسيسها، وكانت لي الإسهامات الآتية:
(1)
المشاركة في تحكيم بعض جوائزها (1994 و2014).
(2)
تأليف كتاب «عصر أبي فراس الحمداني» لدورة أبي فراس الحمداني.
(3)
كتابة دراستين عن إصدارين لها حال صدورهما، هما: «معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين» بطبعته الأولى (1995)، و«الأعمال الكاملة لإبراهيم طوقان» (الكويت 2002).
(4)
إبداء الرأي بتكليف من المؤسسة بتاريخ 29/3/2010 في نماذج تجريبيّة من «معجم البابطين لشعراء العربيّة في خمسة قرون (1301 – 1800).
فأمّا دوراتها وندواتها وملتقياتها واحتفالياتها فقد شاركت في: ندوة أبي القاسم الشابي (فاس – المغرب 1994)، وملتقى سعدي الشيرازي (طهران – شيراز 2000)، وندوة أبي فراس الحمداني (الجزائر 2000)، وندوة محمود شوقي الأيوبيّ (الكويت 2001)، وندوة «مئوية الرحيل والميلاد: عبد الله الفرج وأمين نخلة (الكويت 2002)، وندوة «علي بن المقرّب العيوني وإبراهيم طوقان» (البحرين 2002)، وندوة ابن زيدون (قرطبة – إسبانيا 2004)، واحتفاليتها بالذكرى العشرين لتأسيسها (القاهرة 2009).
– 3 –
إن صلتي بالمؤسسة ومعرفتي الجيّدة برئيسها الرّاحل، ومشاركاتي السابقة في نشاطاتها، ومتابعاتي لما تنهض به من أعمال وإنجازات تملي عليّ أن أُذكّر في عجالة بدورها الفاعل في الميادين التي نذرت نفسها لها.
فهي، مذ نشأتها، جعلت تمنح كلّ سنتين جوائز في فنّ الشعر عن الإبداع الشعري الكامل لشاعر أسهم في إثراء حركة الشعر العربيّ، وعن أفضل ديوان وأفضل قصيدة، وجائزة في نقد الشعر في دورة من دوراتها تسمّى باسم أحد الشعراء العرب الكبار قدماء ومعاصرين، أو باسم شاعرين عربيين أو شاعر عربي وآخر غير عربي كما في دورة «شوقي ولامارتين» (فرنسا 2006).
ودأبت، كذلك، على تكليف عدد من الباحثين المتخصصين في كلّ دورة أو ندوة أو ملتقى أو فعاليّة بكتابة بحوث ودراسات أو تأليف كتب، ناهيك بإعادة نشر أعمال الشعراء المعاصرين وتحقيق دواوين الشعراء القدامى من مثل أبي فراس الحمداني، وابن زيدون، وإعادة طبع أهم ما كتب عنهم من دراسات.
لم تكتف بكلّ هذا، على أهميته، إنما عضّدته بتوسيع آفاق مهماتها ونشاطاتها، فأغدقت، وما زالت، بسخاء وأريحيّة على طلاّب العلم من أقطار الوطن العربيّ مشرقًا ومغربًا والطلاب المسلمين الجامعيين في عدد من الجامعات العربيّة وبعض بلدان الاتحاد السوفييتي سابقًا. وأنشأت مركزًا لتدريس اللغة العربيّة خارج الوطن العربيّ، وخصّصت «جائزة عبد العزيز سعود البابطين: أحفاد الإمام البخاري» في الدراسات الإسلاميّة لتقوية أواصرها وأواصر مؤسسها النابه بالدول الإسلاميّة الآسيويّة.
حسبها أنّها أصدرت «معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين» في طبعتين، و”معجم البابطين لشعراء العربيّة في خمسة قرون 1301 – 1800»، وأنشأت مكتبة البابطين المركزيّة للشعر العربيّ بالكويت (2000) التي حضرت حفلي وضع حجر أساسها وافتتاحها، وأنشأت «مركز البابطين للترجمة» ببيروت (2004)، و«مركز البابطين لحوار الحضارات» (قرطبة – إسبانيا 2005)، وكرسي عبد العزيز سعود البابطين للدراسات العربيّة ودراسة اللغة العربيّة بجامعة قرطبة الذي خرّج في دورته الأولى (2005) عددًا من المرشدين السياحيين ونجح نجاحًا في تعليم اللغة العربيّة في تلك الديار. وتلا تأسيس هذا الكرسي إنشاء كراسٍ أخرى للأغراض ذاتها في جامعات إسبانيّة أُخرى في غرناطة وإشبيلية وملقا، وأُخرى مماثلة للغة العربيّة والثقافة الإسلاميّة في عدد من الجامعات الأوربيّة والأمريكيّة والآسيويّة.
ولولوع الرّاحل المؤسس بالحضارة الأندلسيّة وعشقه لها أنشأ جائزة عالميّة، بإشراف جامعة قرطبة، لأفضل دراسة عن الإنجازات الأندلسيّة في الحضارة العربيّة الإسلاميّة. وقد تمخّض اهتمامه الكبير هذا بالأندلس عن أن إسبانيا قرّرت أن تكون العربيّة لغة رسميّة في مدارس إقليم الأندلس، وسمحت بالحصول على نسخ مصوّرة من المخطوطات العربيّة في مكتباتها كافة ما حدا بالفقيد أن يؤسس «مركز البابطين للمخطوطات الشعريّة» في الإسكندريّة (2007).
ولم ينسَ عبد العزيز البابطين فلسطين من مشروعاته لاسيّما قدس الأقداس، التي سارع إلى تأسيس «مكتبة البابطين» فيها، ثم أُلحقت بجامعة القدس؛ فضلًا عن «جائزة البابطين للشعر العربيّ في فلسطين» للشباب الفلسطينيين. وليس كلّ هذا بعزيز عليه وهو الذي كرّم في دورة الجزائر (2000) والدة الشهيد محمّد الدرّة.
– 4 –
وأمّا مؤسس المؤسسة ورئيسها ورئيس مجلس أمنائها وراعي نشاطاتها كافة، فرجل عصاميّ سوّد نفسه بنفسه، وكان يحلو له أن يتغنّى، ما واتت الفرصة، ويعتز بعصاميته وكفاحه وجدّه واجتهاده في تحصيل العلم والمال في آن إلى أن حباه الله بما هو أهله من جاهٍ ونعماء وثروة صانها وحافظ عليها واستثمرها في دروب الخير والصلاح والثقافة والعلم شكرًا لخالقه واعترافًا بنعمته التي رأى من واجبه أن يرى، سبحانه وتعالى، أثرها عليه؛ فانبجست من هذا كلّ مؤسساته ومشروعاته التي تزداد يومًا عن يوم بهمّةٍ لا تعرف الملل والكلل ولا الحرص على المال، إذ كان يغدق جزءًا منه أيضًا، دون منّة وتباهٍ، في الخفاء والعلن على الفقراء والمعوزين وأصحاب المشروعات الثقافيّة المتعثرة لا يرجو من وراء هذا كلّه سوى إرضاء خالقه الذي كرّمه بكل ما هو فيه وعليه، ودعم العربيّة وثقافتها ومثقفيها وشعرائها وكتّابها وعلمائها.
إنّه عبد العزيز سعود البابطين الموسر المثقّف الشاعر القدوة الحسنة لمن يقتدي، والله أسأل أن تسري عدوى سخائه ومؤسساته ومشروعاته الكثيرة إلى موسري العرب وأثريائهم، وما أكثرهم!
– 5 –
ليس بكثير، لكلّ ما تقدم، أن يحظى عبد العزيز سعود البابطين الإنسان الأُنموذج بفيض من التقدير والاحترام والاعتراف بفضله وجهوده ونشاطات مؤسسته، فتنهال عليه التكريمات بأنماطها المختلفة.
لقد منح إحدى عشرة دكتوراه فخريّة من عدد من الجامعات العربيّة والأجنبيّة، وكان من حسن طالع جامعة اليرموك أن تكون الثالثة والأولى عربيًّا باقتراح مني وترحيب وقبول كاملين من الأستاذ الدكتور فايز خصاونة رئيس الجامعة آنذاك، وقد كنت نائبًا له، وقرار من مجلس العمداء (2001).
ومُنح عددًا من الأوسمة والمواطنات الشرفيّة لعدد من المدن، وكُرّم تكريمات شتّى، واحتفى به في عدد من الجامعات والبرلمانات، وعُقدت عنه غير ندوة، واختير رئيسًا لغير مؤسسة فكريّة وثقافيّة أو عضوًا فيها، ومنح في وطنه الكويت جائزة الدولة التقديريّة (2002)، واختير سفيرًا للنوايا الحسنة (2012). وكتب عنه وعن مؤسسته وفعاليتها عدد غفير من القادة والزّعماء والأكاديميين والمثقفين مقالاتٍ أو رسائل قصيرة أو شهادات تشيد جميعًا بأفضاله على الثقافة وجهوده في العلم والتعليم؛ وكلّ هذا مسطور في كتاب «صور وشهادات: عبد العزيز سعود البابطين» (الدار المصريّة اللبنانيّة – القاهرة 2014).
وكتبت دراسات وبحوث ومقالات عن دواوينه الثلاثة: «بوْح البوادي» (1995)، و”مسافر في القفار» (2004)، و «أغنيات الفيافي» (2017) التي ترجمت مختارات منها إلى الإنجليزيّة والفلنديّة، وغنيّت بعض قصائدها.
– 6 –
رحم الله الأستاذ عبد العزيز سعود البابطين، ووفّق خلفته الكرام جميعًا لمزيد من أعمال الخير وخدمة الثقافة في الوطن العربيّ والدول الإسلاميّة والعالم أجمع، وبارك في المؤسّسة ومشروعاتها جميعًا الآن وفي كلّ آن، فإنّه لا يضيع أجر المحسنين، «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون».