عروبة الإخباري
تعود إلى اسم الرواية (جيم ) كعتبة للنص، وتشكل عتبة النص امتدادًا أو مدخلًا بشكل أو بآخر، ويساهم في إيصال معانيها ومقاصدها والإحاطة بعوالمها، فتدخل في متاهة الحرف من حيث المعنى، وربما تنسرب إلى حرف الحرف وتدخل في دوامة اللفظ والمعنى والدلالة.
الاستهلال.. ( إنّ قلب الإنسان حفرة مليئة بالدم، وأولئك الأحباب الذين ماتوا، يلقون بأنفسهم على حافة الحفرة وينهلون من الدم ) كازانتزاكيس.
أي لغةٍ وأي معانٍ يرسلك إليها هذا الاستهلال ؟ وما علاقته بالرواية وبكل ما فيها ؟ ربما ستجد رابطاً ما بعد انتهائك من قراءة الرواية.
ومن الجملة الأولى في الرواية ( الله الذي قاطعتُهُ منذ سنوات قليلة، اعتدتُ التحدث إليه كما لو كان صديقي الوحيد الذي يعرفني أكثر مما أعرف نفسي، تواصلت معه في جميع مراحل حياتي )الرواية ص 5.
يأخذنا ( لمين )
إلى عوالمه وطريقة فهمه للأشياء، ويعرفنا على مدينته الأحب ( وهران ) التي اكتفى بها وأخلص لها كما يخلص لكل الأشياء التي يحبها، ويعرفنا على نفسه كمسخ قام بأذية كل من حوله، حتى والدته التي يُحب، والحادثة التي تعرضت لها ويُحمّل نفسه مسئولية موتها.. ثم يجول بنا في مدينته الحبيبة وهو يودعها ويستذكر أحداث حياته فيها. هنا يسجل للكاتبة أنها قدمت المكان الجزائري بدقةٍ وجمال، وجعلتنا نشعر أننا نعيش في هذا المكان، نراه ونحسه ونشم رائحته، ونحبه فوق ما نحبه.
تشعر وأنت تقرأ في الرواية أنّ الكاتبة قد استطاعت بحذق ومهارة، بسلاسة وهدوء أن تسحبنا من صدمة الاسم والإهداء والاستهلال، وها هي ستأخذنا برحلة يبدو أنها ستكون طويلة ومختلفة ومميزة، ولكن أين سنرسو في نهاية المطاف وفي أي مرفأ؟
ها هو ( لمين ) في محطة القطارات وهو يستعد لركوب الحافلة التي ستقِلُّهُ هارباً إلى
( تمنراست ) كأبعد مكان في الجزائر، تلفت انتباهه وهو يستعد لركوب الحافلة فتاة غريبة الأطوار، ويلاحظ سقوط مفكرة من حقيبتها دون أن تنتبه، يأخذ المحفظة، تصعد الفتاة لنفس الحافلة التي سيستقلها في رحلته الطويلة، ثم يتعرف عليها بذريعة المحفظة، ويدور بينهما حوار ممتع وذكي جداً يتعرفان من خلاله على بعضهما.
وصف الرحلة بكل تفاصيلها ومحطات الاستراحة، والحوار الذكي والمدهش الذي أبدعت الكاتبة في استخدامه لتقديم شخصية ( جيم ) بكل غرابتها وتعقيدها وتوضيح شخصية ( لمين) جاء مقنعاً وممتعاً.
قليلة هي الروايات العربية التي يعلق بها القارئ وتبقى عوالمها وأجواؤها ومقولاتها وشخصياتها عالقة بفكره ودواخله، وتساهم بخلق حوار عميق داخله بعد قراءتها، وهذا أحد الشروط الأساسية كي تصل الرواية إلى الإبداع، وقد استطاعت رواية ( جيم ) أن تحقق شرطها الإبداعي، وأعتقد أنها ستثير حوارات في دواخل القراء، وجدلًا قد يساهم في إعادة صياغة بعض المفاهيم، ذلك لأن الروائية استطاعت أن تتناول مواضيع صعبة وخطيرة ومحرمة، لكنها تمكنت من تقديمها بنوع من السلاسة الأسلوبية، هذا فوق امتلاكها وتمكنها من أدواتها الفنية، وبسرد سلس، بسلاسة ويسر ضمّنت كل ما تريد أن تطرحه من أسئلة وكل ما أرادت أن تشير إليه أو تضيء حوله عبر خلقها وبنائها للشخصيات المركبة بحرفية واقتدار، وبقدرتها على ابتكار الكثير من الأحداث والحكايا المتضمنة داخل هذا البناء الفني والمعمار الروائي المدهش، وبالقدرة الهائلة على متابعة تطور وتصاعد الأحداث والتحكم بإيقاع السرد ونبضه وحرارته، النابع من نبض وحرارة الأحداث والشخصيات، فجاءت كل عناصر العمل الروائي مشغولة برهافة الحس، وبقدرة المتمكن، بعيداً عن المباشرة والإقحام، وبدون زوائد أو فائض لغة، وبجرأةٍ لا فجاجة فيها اقتربت من الحواف الخطيرة والأماكن المحرمة التي يهرب منها الكثير من الروائيين العرب، فعالجت مواضيع كبيرة ومهمة ( العشرية السوداء، الجنس المحرم، الانتماء في ظل التنوع والاختلاف ) ولم تقع الجرأة في الفجاجة والمباشرة الزائدة، ولم يقع السرد في الخطابية أو الفوقية أو الوعظ والإرشاد، فجاء السرد مرتاحاً ومريحاً، ولم يكن خاضعاً لهيمنة الأفكار والقضايا الكبرى، بل كان نابعاً من روح حرة، عايشت كل الأحداث وقدمت رؤيا وأعلت حساً صادقا ونابضاً أعطاها القدرة على التماهي مع الشخصيات، والتعبير عنها بحساسية مدهشة وبكل ما تعرضت له كل شخصية أثناء انسحاقها تحت مسننات حاضر تجاوز حدود القسوة إلى التوحش.
كل ذلك قدمته الرواية بحساسية نفسية وفكرية وفلسفية، بعيداً عن الجمل الجاهزة والمستهلكة، بل جاءت الجمل السردية متدفقة بتلقائية ومعبرة بصدق عن كل ما يدور في أرواح وعقول وقلوب الشخصيات، وبمعرفة ووعي لمجاهيل النفس البشرية، فتمكنت ونجحت في أن تبقي القارئ عالقاً ومتعلقاً بالرواية حتى بعد انتهائه من قراءتها.
في معالجتها للشخصيات المركبة ( جيم، جهاد ) استطاعت الروائية أن تقربنا كثيرًا من تلك المجاهيل في النفس البشرية، وبالكثير من المبهمات التي تغلف أرواح هذه الشخصيات، استطاعت رسمها من الداخل بكل تفاصيلها الجوانية العميقة، طبيعة الشخصية وطريقة التفكير، وأدخلتنا في حيرتها وربكتها واضطرابها، في هوسها وقسوتها وجنونها.
الجرأة في تسليط الضوء عبر الرواية على بعض المواضيع، مثل الجنس المحرم، كما فعلت رواية (جيم )، موضوع مهم جداً أن يتمّ تناوله في الأعمال الإبداعية، كونه جزءًا من واقع حقيقي وموجود في مجتمعاتنا حتى لو كنا نرفضه وندينه، لكنه موجود ويكسر كثيرًا من الأرواح الإنسانية في مجتمعاتنا، ويمتد تأثيره على كل من هم حول هذه الشخصيات التي تتعرض لذلك.
فماذا لو أدخلنا مزيداً من الالتباس والتعقيد كما فعلت ( ساره النمس ) في روايتها ( جيم )، وأنا هنا أُحيي الكاتبة على الجرأة والاحترافية والاقتدار، وعلى هذا العمل الإبداعي الرائع.
لقد أبقت الروائية خيوط الربط والفهم والتفسير والإدراك مُعلقةً ومفتوحة على طبيعة وخصوصية الشخصيات ( جيم، جهاد، جنات، لمين ) واستطاعت باقتدار أن تجعل خيوط السرد للحدث نفسه تلتف وتتعدد وتختلف وتتشابك وتتعقد أحياناً، وتركت للقارئ مساحة واسعة كي يتفاعل أو يشكل فهمه الخاص أو يتبع إحساسه وحساسيته.
وأخيراً… أعود لجملة الإهداء تلك.. ( تحريف الكذب بالحقيقة ). ربما تكون هذه الجملة مُغلقة على البعض، وربما تكون موحية للبعض الآخر، وربما أنها مرت ولم ينتبه لها كثيرون.
هل يمكننا اعتبار تشابكات السرد في الجزء الأخير من الرواية ودفتر مذكرات جهاد.. كنوع من تحريف الكذب بالحقيقة؟ ثم ماذا لو أننا رغبنا بتحريف الوهم بالحقيقة.. إذ أنني أشعر أحياناً أن كل ما في الوجود ليس أكثر من وهم.. فلماذا لا نحرف الوهم بالحقيقة.
أيُّهم كان واهماً:
جيم
جهاد
جنات
لمين