معروف محفوظ عن ظهر قلب هذا المثل الشعبي الذي تبين أنه عالمي: إن كان بالدين هات رطلين!! تستسهل الناس الشراء بالدين. يحاكي خبراء التسويق غرائز المستهلك وأحيانا مشاعره النبيلة بما فيها الروحية والإنسانية والوطنية، يحاكوها بل ويتحكمون بها عن بعد بما يضمن الشراء حتى ولو بالدين وبفوائد مركبة متغيرة، فيما يعرف بالقروض البالونية ببلاد العم سام، ينفخونها متى شاؤوا، وبين الدائن والمدين «يفتح الله»!
كان الحلم الأمريكي ومازال امتلاك بيت، لكنه صار منذ عقود الحرية من الديْن. «أبو زيد خاله» من استطاع عدم تجاوز الثلاثين بالمئة من بطاقاته الائتمانية التي ينبغي ألا تتجاوز الاثنتين. ومما لا شك فيه أن التجارة الالكترونية وتسهيلات الشراء والدفع ببضع نقرات، أحيانا لا تتجاوز النقرة، شكّل ثقافة خطرة أشبه ما تكون بأولئك الذين يقترفون القمار والميسر الكترونيا! ما عادت هذه الكوارث تتطلب الذهاب جهارا أو خلسة إلى النوادي المظلمة، بل صارت للأسف متاحة حتى للمراهقين والأحداث عبر هاتف نقال اشتراه الأب أو الأم لفلذات أكبادهم بالتقسيط المريح ربما لكنه الاخطبوطي قطعا. كل خيط من خيوط تلك الديون يتحول إلى شبكة تضيق الخناق على اختيارات وبالتالي حرية المقترضين.
لكن -وكما ينظّر بعض الاقتصاديين وخبراء المال- بعض الديْن خبيث وبعضه الآخر حميد. الاستلاف في ثقافتنا مثلا لغايات التعليم أمر حميد، لأنه استثمار. وهذه القضية صارت بسبب ارتفاع الفوائد «مسألة فيها نظر». كلفة الدكتوراة مثلا قد تصل بلا فوائد إلى ربع مليون دولار في بعض الجامعات المرموقة في أمريكا. فيكون السؤال هل يستحق حرف الدال ذالك إن كان في الأمر مباهاة ومفاخرة؟ حتى وإن كانت الغاية التدريس في الجامعة بعد نيل الشهادة، هل يوازي العائد المالي ما تم استثماره من المدخرات أو بيع عقار أو أرض متوارثة كابر عن كابر عبر الأجيال، أو الاستلاف بفوائد قد تصل إلى السبعة بالمئة، هل يستحق كل ذلك هذه المجازفة وفي كثير من الأحيان المقامرة؟!
كأحد المؤمنين بشدة بالاقتصاد الحر ومن تجارب شخصية، ليس أفضل للدائن والمدين من أن تترك العلاقة بينهما حرة، دونما أدنى تدخل من الحكومة. طبعا لذلك استثناءات متوافق عليها عالميا، كمحاربة الاحتيال والاحتكار والمس بأي شكل من الأشكال بالأمن الاقتصادي الاجتماعي وأحيانا حتى الأمن بأبعاده السيبرانية والعسكرية كما هو الحال الآن في أمريكا حيث علت أصوات التحذير من نشاطات اقتصادية عقارية مشبوهة أو مريبة تقوم بها شخصيات صينية بشراء قطع كبيرة من الأراضي الزراعية بالقرب من قواعد أمريكية عسكرية استراتيجية. طبعا «التقارير الصحفية» صارت قضية انتخابية في هذا الموسم المفصلي بكل معنى الكلمة بالنسبة لمستقبل أمريكا وصورتها وقوتها وهيبتها وحضورها العالمي.
ربما من أكثر موجبات أو مبررات الديون الحميدة المقبولة لا بل والتي تحظى بالتشجيع هي تلك الاستثمارية لا الاستهلاكية. في دولة عربية شقيقة سبقت البنوك الوطنية منذ نحو عقدين المنطقة برمتها في تخصيص قروض لعمليات التجميل! لذلك باب آخر قد أعود إليه بعد أسابيع أو أشهر، بحسب تداعيات حرب السابع من اكتوبر، لكن من المفيد جدا للجميع تسهيل ما تعرف بقروض الصحة الجيدة ونوعية الحياة. بعض البرامج الخاصة بذلك مكلفة تبلغ مئات وربما ألوف الدنانير، وهذه أمثلة: فحص أو برنامج غذائي رياضي لا ريب أنه مكلف، لكن فواتير الأمراض المترتبة على تجاهل الأمراض الأكثر رواجا واستنزافا لميزانياتنا الوطنية والأسرية -كالضغط والسكري والسمنة المفرطة- أكثر كلفة وأفدح خسارة على الجميع. ما ضير أن يبادر بنك وطني أو مستثمر أجنبي مصرفي في تسهيل قروض من هذا النوع؟ وأكاد أكون جازما بأن تسهيلات من هذا النوع ستحظى بدعم «إنجي أووز» -يعني منظمات غير حكومية- وهيئات دولية حسنة النية والسيرة، تحبنا وتريد الخير لنا كما تؤكد مرارا وتكرارا. ها هو «الميدان يا حميدان» ساعدونا من أجل صحة أفضل، فالقضية ليس مجرد الإقلاع عن التدخين أو مكافحة السموم المسماة المخدرات.
مثال آخر، تسهيلات الحصول على قسط مستحق للراحة الفردية والأسرية، حتى يخف التوتر والضغط على أعصاب الناس والكل معني بذلك بما فيها الشركات والمؤسسات التي ينبغي أن تستثمر في هذا القطاع الحيوي لمصلحتها هي في المقام الأول فالموظف أولا وآخرا هو من أصول وموجودات أي شركة أو مؤسسة في القطاعين العام والخاص.
ما ضير تلك الجهات المصرفية والتمويلية -وكثير منها ينتج محتويات يدعم معالمنا ومنتجاتنا السياحية- ما ضيرهم أن يوفروا قروضا لا بل منحا للتخفيف من منسوب التوتر والإحباط. ثمة هوس بالرأي العام ولا أحد يقر ويعترف بأن كثيرا من مخرجات استطلاعات الرأي وأحيانا الانتخابات، ما هو إلا تعبير عن المزاج العام للناس.
الاستثمار في الصحة النفسية والعقلية الفردية والجمعية للناس أمر لا يستهان به. لو أخذنا فقط حوادث الطرق والتوترات الانفعالية ذات المحيط الأسري والمجتمعي، لعرفنا مدى فداحة الكلف ومدى عِظَم الاستثمار. ولهذين المثلين أقول «بصدر مفتوح»: هات رطلين!!
هات رطلين!!* بشار جرار
7