تأتي أحداث الضفة الغربية الأخيرة ضمن سلسة غير منقطعة من تاريخ ممتد من الاعتداء على حق الفلسطينيين، مثقل بالعنف والقتل والتدمير، قائم على روايات ملفقة ومضللة وخادعة، متحصن بدعم ومساندة غربية بريطانية – أميركية مكشوفة. مع انطلاق أكبر عملية عسكرية يشنها الاحتلال ضد الضفة الغربية منذ العام 2002، بدأت منذ يوم الأربعاء من الأسبوع الماضي، سقط فيها خلال أسبوع واحد فقط 33 شهيد فلسطيني، وتخطى عدد الجرحى والمعتقلين المئات، والعدد مؤهل للزيادة كل لحظة. وتركز هذه العملية المتواصلة بشكل أساسي على شمال الضفة الغربية، ومخيماتها، وتنتهج تدميراً واسعاً للبنى التحتية للمدن والقرى والمخيمات. ويدعي الاحتلال أن المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، مدعومة من إيران وتنوي شن هجمات على أهداف في المستوطنات المقامة على أرض الفلسطينيين، ولم تقدم كعادتها أي دليل على ذلك. وحسب صحيفة “يسرائيل هيوم” العبرية تعتبر سلطات الاحتلال منطقة الضفة الغربية اليوم منطقة قتال والجبهة الثانية الأكثر أهمية بعد قطاع غزة، وتؤكد نقلاً عن مسؤولين عسكرين إنّ العملية مستمرة وليست سوى البداية. وفي تطور متصل استعرض بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي يوم الإثنين الماضي وأثناء تصاعد تلك الأحداث خارطة لفلسطين لم تظهر عليها أي من المدن الفسطينية في الضفة، أو أي إشارة للأراضي الفلسطينية، وظللت خارطة فلسطين كلها بلون مختلف عن اللون الذي ظلل به قطاع غزة والذي لون بنفس لون الظلال المستخدم للأردن. هذه ليست المرة الأولى التي يلغى فيها نتنياهو أي أثر فلسطيني من خارطة فلسطين، فقد فعل ذلك أيضاً أمام دول العالم في افتتاح دورة الجميعة العامة السنوية العام الماضي، قبل أيام من أحداث السابع من أكتوبر، لكنها الأولى التي يرتبط فيها القطاع بالأردن، ويفصله عن الضفة.
تأتي أهمية تلك الخارطة التي رفعها نتنياهو بعد بدء الهجمات الحالية التي يواصل الاحتلال شنها في الضفة الغربية بتقاطعها مع دعوة وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس لإخلاء الضفة الغربية من أهلها، والتعامل معها كغزة باعتبارها “حربًا كاملة الأركان”. وفكرة تهجير الفلسطينين عن وطنهم ليست فكرة بعيدة عن أذهان قادة وحكومات الاحتلال، فإسرائيل كيان قام في الأساس بالعنف، والتدمير، والدم، والتهجير، وطالما كانت الأردن جزء من خطة لتهجير الفلسطينيين. وطرحت فكرة التهجير ليس فقط لتهجير الفلسطينيين من الضفة وغزة، بل لتهجيرهم أيضاً من داخل الخط الأخضر، عندما طرحت كخيار في المفاوضات. بعد حرب عام 1967، وضع إيغال آلون، وزير العمل الإسرائيلي خطة تحمل اسمه تقسم من خلالها الضفة بين إسرائيل والأردن. وفي الثمانيات من القرن الماضي، اعتبر آرييل شارون أن الأردن هو فلسطين، كما اعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينه إسحق شامير أن وطن الفلسطينيين في الأردن. وأرجأت لجنة الخارجيّة والأمن في الكنيست مناقشة موضوع تحت عنوان الأردن هي فلسطين. وتشير المعطيات الأخيرة إلى زيادة عدد الفلسطينيين الكلي في جميع أنحاء فلسطين مقارنة باليهود، وارتفاع نسبة الزيادة السكانية لدى الفلسطينيين مقارنة باليهود، الأمر الذي سيزيد حجم الفجوة بين أعداد الطرفين لصالح الفلسطينيين، وهو ما يمس مباشرة مستقل كيان الاحتلال واستمراره من وجهة نظر قادته. قد يفسر ذلك الواقع، والهدف الممتد للاحتلال، إعادة طرح وبروز فكرة التهجير مرة أخرى خلال الحرب الجارية في غزة حالياً على لسان قادة الاحتلال، الأمر الذي يرفع سؤالاً كبيراً حول مدى إمكانية التفكير فيها للضفة الغربية، وهي المنطقة التي يحاول الاحتلال ضمها منذ احتلاله لها في العام 1967، وتصاعد ذلك بشكل جلي بعد اتفاق أوسلو، ووصل لمستوى خطير مع وصول حكومة نتنياهو اليمينية الحالية للسلطة.
لا يمكن فصل التطورات الحاصلة اليوم في الضفة عن تصعيد الاحتلال الذي بدأ مع أحداث السابع من أكتوبر العام الماضي. ففي أكبر حصيلة تبلغها الضفة منذ أكثر من عقدين، ارتفع عدد الشهداء الفلسطينيين في الضفة الغربية فقط منذ ذلك الوقت لـ 682 شهيدًا، وأكثر من 6000 جريح، وتخطى عدد الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال الـ 10 ألاف، يعانون أصنافاً من العذاب الذي تخطى في وصفه ذلك التي شاع في سجن أبو غريب، اذ بلغ عن حالات لقتل واغتصاب وتعذيب وحشي في صفوفهم. كما لا يمكن عزل ذلك عن تطورات الحرب في غزة، وإصرار نتنياهو على مواصلتها، وعدم استجابته لنداءات الشارع الإسرائيلي، الذي يتصاعد احتجاجه يوماً بعد يوم، مطالباً حكومته بعقد صفقة تبادل ووقف لإطلاق النار في غزة. ويتحصن نتنياهو، الذي لا يريد أن يترك الحكم، بتحالفه اليميني المتطرف، الذي يضمن له استقرار حكومته، والأغلبية في الكنيست. كما يضمن بقاء جبهات الحرب مفتوحة واستمرار التصعيد بقاء الحكومة الحالية على رأس عملها، دون مساءلة أو محاسبة.
ويمكن اعتبار توجهات نتنياهو للتعامل مع غزة مؤشراً لطريقة تفكيره تجاه الضفة. ورغم عدم كشفه عن خطة واضحة تجاه غزة، إلا أن تصريحاته المبعثرة تدلل عليها، فأكد على أن القطاع سيكون تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية بعد الحرب، مع تعين حاكم أو مسؤول لغزة، وبقاء القطاع منزوع السلاح، مع مواصلة حرية العمل العسكري فيه، والتحكم والسيطرة على حدود القطاع مع مصر، والسماح بالتدخل الدولي أو الإقليمي الإنساني، الذي يرفع عنه حمل تحمل مسؤولية وتبعات التدمير الذي أحدثه في القطاع أولاً والاحتلال بعد ذلك، مع السماح بإعادة تأهيل القطاع تحت السيطرة الإسرائيلية. ولا يمكن أن نغفل التصريحات التي جاءات في بداية الاعتداء على غزة حول تهجير الفلسطينيين منها، وحملة التدمير الواسعة التي يشنها الاحتلال على مدار أشهرها الـ 11 لتحويلها لمكان غير قابل للحياة.
كما لا يمكن تجاهل موقف نتنياهو وحكومته من السلطة الفلسطينية، فرغم التفاهمات والتنسيق المفترض مع السلطة، وفق ما أرسته اتفاقية أوسلو، والتي ربطت عمل السلطة جوهرياً بسلطات الاحتلال، الا أن نتنياهو يتعمد تجاهل السلطة وعزلها عن صدارة الأحداث، بدأ ذلك مع صعوده وحكومته للحكم نهاية العام 2022، وبات ذلك واضحا بعد أحداث السابع من أكتوبر، ووصل ذروته بعد اجتياح الضفة الحالي. قد يعكس مقال كتبه دنيس روس مؤخراً، ويحمل رسالة عن السلطة الفلسطينية، توجهاً مهماً لحكومة نتنياهو والإدارة الأميركية. وروس يهودي أميركي ويؤمن بالصهيونية، ودبلوماسي سابق، وطالما انخرط بالتنسيق بين الفلسطينيين والإسرائيليين في إدارات متعددة، ويعمل حالياً في مراكز تفكير أميركية قريبة من إسرائيل. وجه روس في مقاله الأخير اتهام مباشر لدبلوماسيين فلسطينيين بدعم “الإرهاب”، بعد أن قام بتتبع تصريحاتهم ومواقعهم للتواصل الاجتماعي. لا يأتي وقت نشر المقال عبثاً، فقد جاء خلال العملية الحالية للاحتلال في الضفة، كما أن شكل المقال مقصود، والذي يوحي بأنه ليس مقال للرأي بقدر كونه بحث وتتبع للمعلومات، ولا يخرج انتشاره وترجمته لعدة لغات عن ذات السياق المقصود له. تأتي حساسية المقال بالنسبة للسلطة الفلسطينية، في أن روس تتبع تصريحات أعلى مسؤولين في وزراة الخارجية، الذين يمثلون سياسة السلطة الرسمية على الصعيد الدولي، كما أن وزير الخارجية الفلسطيني هو ذاته رئيس الوزراء الفلسطيني الأمر الذي يزيد من حساسية الموقف. ومن المفيد هنا لفت النظر لقضية طالما شغلت الرأي العام الفلسطيني وحذر منها، والمتعلقة بطبيعة التعينات للمناصب الحساسة، التي تتطلب مراعاة خاصة، في وضع فلسطيني خاص جداً. وهنا يبرز السؤال، هل يأتي توجه نتنياهو وحكومته تجاه عزل السلطة الفلسطينية، بالتقاطع مع مقاربته التي تخلت عن ترسيخ حالة الانقسام بين السلطة وحركة حماس، أو بين الضفة وغزة، فقرر القضاء على حماس في غزة، والتخلص من السلطة في الضفة؟ وإن كان ذلك صحيحاً فما هو المخطط المحتمل المجهز بدلاً من ذلك؟
ليس من المفهوم كيف يمكن أن يتم شن حرب على الضفة الغربية كغزة، فالضفة تقع بالكامل تحت السيطرة الاسرائيلية، ومقسمة الأوصال، ومدنها وقراها محاطة بالمستوطنات والمواقع العسكرية والحواجز والبوابات الحديدية، مراقبة شوارعها وأزقتها بالكاميرات، ويخضع أثيرها لتتبع، وكل فرد فيها معروف لدى قوات الاحتلال، الأمر الذي يفسر صعوبة الحركة والعمل بحرية. إلا انه من المفيد مراجعة بعض الحقائق التي تتعلق بنتنياهو كرئيس للحكومة، الذي اعتبر في العام 1995 أن “دولة لمنظمة التحرير يمكن أن تقام على بعد 15 كيلومتراً من شواطئ تل أبيب ستشكل خطراً مميتاً مباشراً على الدولة اليهودية”، وأكد مروراً وتكرارا أنه “لن تكون هناك دولة فلسطينية”. ويمكن ربط ذلك بسياسة نتنياهو وحكومته بعد وصولهم للحكم نهاية العام 2022، وتتبع سياستهم، التي نقلت سياسة الضم الزاحف، والقائمة على أساس التوسع الاستيطاني، وتقوية المستوطنين في الضفة الغربية ومدينة القدس لحد المواجهة والتصريح، والتي اعتبرتها منظمة “ييش دين” الإسرائيلية أنها قد تؤدي لقمع وتشريد الفلسطينيين. وفي غياب الضغوط الدولية المنسقة، وخاصة الضغوط الأميركية، على نتنياهو للحصول على وقف إطلاق النار وإنهاء الهجوم الإسرائيلي الجديد على الضفة الغربية، فمن المرجح أن يخرج الوضع عن السيطرة.