عروبة الإخباري – بقلم السفير/ إيلدار سليموف
تشهد جمهورية أذربيجان منذ 20 يناير عام 1990 إحياء ذكرى ما لحق بها ذلك اليوم من الماساة والحزن العام، حينما اقتحمت الوحدات العسكرية التابعة للجيش السوفيتي العاصمة باكو على وجه الخصوص بغية قمع أصوات الشعب الأذربيجاني المطالبة بالاستقلال والحرية.
حيث باتت دماء الأبناء والبنات الأبرياء من شعبنا فجر 20 يناير عام 1990 تسيل في شوارع العاصمة، وذلك في محاولة يائسة من القيادة السوفيتية بهدف الحفاظ على تماسك الاتحاد السوفيتي الذي شارف قاب قوسين من الاضمحلال والهلاك، إذ أخذ الجنود المقعقعين بالأسلحة والدبابات والآليات العسكرية الأخرى إطلاق النيران الكثيفة صوب المتظاهرين السلميين الذين كانوا يطالبون بالحرية والاستقلال عن الاتحاد السوفيتي فحسب.
كالمحصل النهائي لتلك المذبحة بحق الناس العُزل، فقد راح ضحيتها مئآت المسالمين، وبينهم مئآت المصابين بجروح مختلفة الدرجات، ناهيك عن الخسائر غير البشرية الفادحة، غير أن القسوة الفائقة ضد الشعب الأذربيجاني لم تسفر عن نتيجة منشودة وضعتها القيادة السوفيتة تحت رئاسة ميخائيل غورباتشوف نصب عينها، بل عززت من عزيمة وإرادة الشعب إزاء نيل الاستقلال والحرية خارج النطاق السوفيتي الشمولي الإجرامي.
بلا شك أن دراسة وتحليل الأحداث التي وقعت في مدينة باكو في 20 يناير 1990 بشكل منفصل عن العدوان الأرمني علي إقليم قراباغ الآذربيجانية ما بين عام 1987 وعام 1990، حيث بدأ الأرمن بمطالبات إقليمية فى منطقة قراباغ، حيث زادت أطماعه في أراضي أذربيجان التاريخية من أجل تحقيق حلمهم “أرمينيا الكبرى”. وحتي يتم تحقيق ذلك “الحلم”، فقد استمر الأرمن في نشاطهم العدوانى لضم إقليم قراباغ إلى أرمينيا. حيث توسعت دائرة الحركة الانفصالية فى إقليم قراباغ. وفقًا للخطة الموضوعة منذ زمن طويل.
أصدر المجلس التشريعي في قراباغ عام 1988، قراراً غير شرعى يقضي بالانضمام إلى أرمينيا رغم أن إقليم قراباغ يمثل جزءا لا يتجزأ من أراضي أذربيجان وفقا للقانون الدولي، كما انتهك مجلس السوفيت الأعلى لجمهورية أرمينيا الاشتراكية السوفيتية انتهاكًا صارخًا لسيادة ووحد أراضي أذربيجان، وأصد قراره غير القانوني الذي ينص على إنضمام قراباغ إلى أرمينيا الاشتراكية السوفيتية في 1 ديسمبر 1989، ثم وُضعت مؤسسات إقليم قره باغ المتمتع بالحكم الذاتي تحت سيطرة الإدارات ذات الصلة في أرمينيا.
وتجدر الإشارة إلى أنه بسبب تقاعس المركز السوفيتى المباشر، وفي بعض الأحيان عن رعايته المفتوحة، انفصل إقليم قراباغ المتمتع بالحكم الذاتي عن أذربيجان وتم ضمه إلى أرمينيا بشكل غير قانوني. وغيرت جميع شعارات الدولة لأذربيجان فى الإقليم “العلم الوطني، شعار الدولة، النشيد الوطني، وغبرها” الى شعارات الدولة الأرمينية منتهكة القواعد والمبادئ الرئيسية لقانون الإتحاد السوفيتى والقانون الدولي. أظهرت أرمينيا رسميا ادعاءاتها ضد وحدة أراضي أذربيجان، فلا شك ان الأخطاء الكبيرة للقيادة السوفيتية والسياسة الموالية للأرمن هي التي أدت إلى تدهور الوضع في أواخر عام 1988 وأوائل عام 1989. حيث اتسع نطاق العدوان الأرمني في الإقليم المتمتع بالحكم الذاتي التابع لجمهورية آذربيجان والمناطق الحدودية بين أذربيجان وأرمينيا، وأدت الأعمال الإرهابية التي ارتكبت في تلك السنوات إلى مقتل المئات من الأذربيجانيين المدنيين.
وفى اوائل شهر يناير 1990، قامت قيادة الإتحاد السوفيتي، برئاسة غورباتشوف، بنشر معلومات مضللة مختلفة لأجل إدخال القوات السوفيتية إلى مدينة باكو، بحجة أن الوضع في باكو كان خارج السيطرة وأن الحكم السوفيتى فى آذربيجان في خطر شديد، وفي 19 من يناير 1990، انتهك جورباتشوف دستور الاتحاد السوفيتي بشكل صارخ ووقع مرسوماً بإعلان حالة الطوارئ في باكو اعتباراً من 20 يناير. لكي لا يعلم سكان باكو عن إعلان حالة الطوارئ، وتم تفجير محطة الطاقة في تلفزيون أذربيجان، في 19 يناير الساعة 7:27 مساءً، وتم إيقاف البث التلفزيوني الرسمى في الجمهورية ليلا، فدخلت القوات السوفيتية إلى مدينة باكو دون علم سكانها بإعلان حالة الطوارئ، وتعرض السكان المدنيون لهجمات بلا رحمة!
لم تصل المعلومات حول إعلان حالة الطوارئ في باكو إلى السكان إلا في 20 يناير الساعة 7 صباحاً من خلال فتم قُتل مئات الأشخاص، وأصيب أكثر 744 شخصاً بجروح خطيرة، وفقد مئات أشخاص، واعتقل أكثر 800 شخص. كذالك دخلت القوات السوفيتية مدينة نفتشالا في 25 يناير، وبعد يوم واحد أيضاً، تم غزو مدينة لانكران، مما أسفر عن مقتل أشخاص مسالمين في كلا المنطقتين. وبالتالى، بلغ عدد القتلى بسبب التدخل العسكري للقوات السوفيتية في باكو ومناطق أخرى في أذربيجان رسميًا 151 شخصاً.
تشكل مذبحة 20 يناير، عدواناً وانتهاكاً للقوانين والمواثيق الدولية، حيث فام بارتكاب تلك المذبحة قرابة 26 ألف جندي من الجيش السوفيتي، قاموا باطلاق الرصاص ونيران مدافع الدبابات في كل اتجاه على المتظاهرين السلميين تحت إسم إنقاذ الدولة الشيوعية من الانهيار والسقوط.
وقد ورد في تقرير منظمة شيت “منظمة الخبراء العسكريون الأحرار”، بأن قوات الاتحاد السوفيتي أطلق النارعلى المواطنيين المدنيين بقسوة ووحشية، ومن مسافة قريبة جداً، فعلى سبيل المثال تم إطلاق النار على روستاموف 23 مرة، وعلى خانحمادوف أكثر من 10 مرات وعلى يروفيج 21 مرة. كما اطلق النار على المستشفيات وعلى سيارات الإسعاف وقتل الأطباء ورجال الشرطة، حيث تم استخدام رصاص من عيار 5.45 من مدفع رشاش “كلاشينكوف”.
ان غزو قوات الاتحاد السوفيتي للعاصمة باكو، مثل صدمة للشعب الآذربيجانى، ولم يتوقع أحد من أبنائه أن يكون الهجوم بهذه الوحشية والقسوة، خصوصاً وأن آذربيجان لم يقدم للسلطة البلشيفية إلا كل خير
و أظهر الزعيم القومى الآذربيجانى الموقف الوطني المشرف مستنكرا تلك الأحداث المأساوية حيث أنه في 21 يناير 1990، مباشرةً بعد حدوث هذه المأساة المروعة، زار الزعيم الوطني حيدر علييف مكتب التمثيل الدائم لأذربيجان في موسكو برفقة أفراد أسرته، وأعرب عن تضامنه مع شعبه، وأدان القيادة السوفيتية بشدةٍ لارتكابها تلك المأساة الدموية، واعتبر الأحداث التي وقعت في أذربيجان انتهاكًا للقانون والديمقراطية والإنسانية، ومبادئ بناء الدولة الدستورية.
كما وصف الزعيم الوطني حيدر علييف مذبحة يناير بأنها اعتداء على الحقوق السيادية للشعب الأذربيجاني وقال: أعتقد أن المأساة التي وقعت في 20 يناير، كانت نتيجة للخطأ الكبير الذي ارتكبته القيادة السياسية للاتحاد السوفيتي، وتحديداً جورباتشوف وطموحاته الديكتاتورية، فضلاً عن خيانة القيادة الأذربيجانية آنذاك وجرائمها ضد شعبها. فعلى حد علمي، منذ نهاية الحرب الوطنية العظمى، لم تظهر عمليات قتل جماعي بهذه الدرجة من القسوة في الاتحاد السوفيتي في أي مكان، ولا في أي منطقة أخري.
في 20 يناير، سمع العالم بأسره الأخبار عن المذبحة المروعة في باكو. وشهد العالم التدخل العسكري للقوات السوفيتية في باكو، قام العديد من دول العالم وشعوبها الأحرار بالاحتجاج مستنكرين ذلك العزو الوحشي. وقد أحدثت الجرائم التي ارتكبت في باكو في ردود فعل قاسية في الدول المجاورة وفى الدول العربية والإسلامية، حيث تم تنظيم مسيرات ومظاهرات منددة بتلك الأعمال الوحشية في العديد من دول العالم.
فأما فى الدول الغربية
نظرا لشعبية زعيم اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية ميخائيل جورباتشوف في الغرب، ولأن هذه الجرائم ترتكب في حق شعب مسلم، فإنه لم يصدر أي صوت من الدول الغربية لإدانة هذه الأعمال الدموية، مقارنة بما يحدث في أوكرانيا الآن، لدرجة خروج المتحدثة باسم وزارة الخارجية مارجريت تاتويلر ببيان نيابة عن الحكومة الأمريكية، جاء فيه أن الولايات المتحدة لا ترى ضرورة للتعليق على أحداث يناير في باكو. وأصدرت وزارة الخارجية البريطانية بياناً اعتبرت فيه الوضع في أذربيجان شأن داخلي يخص الاتحاد السوفيتي.
وقد تجلت ازدواجية المعايير، والانحياز الغربي الجائر، أنه تم مكافأة ميخائيل غورباتشوف، آخر رئيس للاتحاد السوفيتي، بمنحه جائزة نوبل للسلام، رغم أنه المتسبب الرئيسي في مذبحة باكو، ولا يخفى على أحد ان هذه الإزدواجية في المعايير، شكلت ظلماً واضحاً ليس بحق الأذربيجانيين وحسب، بل بحق الإنسانية كلها، وقد اعترف جورباتشوف نفسه عام 1995، بخطئه في إعلان حالة الطوارئ في أذربيجان، وإرسال القوات السوفيتية الى آذربيجان والسماح بالأحداث أن تسير إلى هذا الشكل الدامي.
برهنت مأساة 20 يناير علي قوة ثبات الشعب الأذربيجاني وتصميمه وإرادته الحرة، فعلى الرغم من حظر التجول الذي فرضه الجيش السوفيتي في باكو حينها، نظم الشعب الأذربيجاني مسيرة حاشدة في ميدان أزادليق “الإستقلال” بالمدينة في 22 يناير لإحياء ذكرى شهداء 20 يناير، وحضر مراسم الدفن في ساحة الشهداء قرابة مليوني شخص.
كان هذا الحدث التاريخي هو العامل الحاسم في تشكيل الهوية الوطنية الأذربيجانية، كما كان السبب في استعادة الاستقلال الوطني. لقد حولت مأساة يناير حركة التحرير الوطني إلى واقع سياسي ودفعت الشعب الأذربيجاني إلى مضاعفة نضاله من أجل الاستقلال الوطنى.
أصبحت ذكري “20 يناير الدامي” مرتبطة بنهاية حكم الاتحاد السوفيتي في أذربيجان وفى جميع جمهوريات الإتحاد السوفيتى السابق. حيث استعادت أذربيجان استقلالها في 18 أكتوبر 1991. ويستذكر المواطنون الأذربيجانيون أبنائهم البواسل الذين فقدوا حياتهم لأجل الوطن الغالية ولأجل الحرية والإستقلال، وكما تحيي أذربيجان حكومة وشعباً مأساة “يناير الدامي” وذكرى الشهداء الأبطال الذين جادوا بحياتهم في سبيل الاستقلال، حيث تقام مراسم الحداد في أذربيجان كل عام، في ذلك التوقيت، وتكتسي باكو باللون الأسود.
وعند منتصف نهار 20 يناير من كل عام، يقف الجميع على مستوى الدولة دقيقة صمت إحياءً لذكرى شهداء 20 يناير. وتنطلق صافرات الإنذار في السفن والسيارات والقطارات في جميع أنحاء البلاد، وتقام المراسم التذكارية في كافة المدن والبلدات، ويتم تنكيس العلم الوطني فوق كافة المباني.