كتب : منيب رشيد المصري
يجمع الشهداء حبهم الخالص للوطن حد الموت، الموت من أجل الحياة ليس إلا، فهم ليسوا عشاق قتلٍ بل طُلاب حياة، فما دفع الشاب الأنيق صاحب الابتسامة الساحرة ضياء حمارشة، وأيضاً الشاب رعد حازم صاحب القسمات الرائعة، ومن قضى قبلهم ومن هو على هذا الدرب سائر إلى التضحية بحياتهم هو الدفاع عن كرامة هذا الشعب، والخلاص من الاحتلال، وهنا اقتبس من قصيدة “يا تلاميذ غزة” لشاعرنا نزار قباني واعتذر منه لأقول يا تلاميذ جنين علمونا… (حررونا من عقدة الخوف فينا… واطردوا من رؤوسنا الافيونا… علمونا فن التشبث بالأرض… ولا تتركوا المسيح حزينا). فلم يعد لنا نحن الفلسطينيون إلا أن نأخذ زمام المبادرة للدفاع عن أنفسنا واسترجاع النفس المقاوم، لأن الاحتلال لا يفهم إلا هذه اللغة، فقد حاورناه لأكثر من أكثر من أربعة عقود من الزمن، ولكن النتيجة كانت مزيداً من الغطرسة والقتل والتدمير.
لا أقل هذا إلا بعد أن قضيت دهراً وأنا أحاول أن أجد في دولة الاحتلال من هو راغب في الوصول إلى سلام حقيقي يحفظ للشعب الفلسطيني حقه في تقرير مصيره، ولكن لم أجد، فما وجدته هو أن دولة الاحتلال بجميع مكوناتها تتجه إلى مزيد من العنصرية والتطرف والذهاب إلى أقصى اليمين، ونتائج انتخابات الكنيست خير دليل على ذلك، فلا يمكن في ظل هذا الإنكار للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني إلا أن يخرج جيلاً جديداً مفعماً بالأمل في الخلاص من هذا الاحتلال فاتحاً “طاقة فرج” جديدة نحو غدٍ مطوقٍ بالكرامة والحرية.
إذا لماذا زغردت جميلة بوحيرد، لأنها ببساطة وجدت أن دربها النضالي لم يتوقف بتحرير الجزائر، بل وجد لها أخوات وأخوة في فلسطين عاهدوا الله وشعبهم بأن يواصلوا مسيرة التحرير سائرين على درب ثوار الجزائر، فما يجمع بين كل هؤلاء أنهم ولدوا من رحم المعاناة وفي محيط ثوري وحاضنة شعبية تشكل حامية لهؤلاء الثوار. فجميلة بوحيرد ولدت في العاصمة الجزائر في حي قديم مكتظ يسمى “القصبة” وهو مصنع وحاضن آمن للثوار، كما هو حال مخيم جنين وقصبة نابلس، فهي بيئات حاضنة للثورة والثوار، وحالها حال الكثير من أحياء المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية داخل الوطن وفي الشتات، التي لن تهدأ إلا باسترداد كرامتها وأساسها العودة والحرية والاستقلال.
في آذار الماضي زرت مخيم جنين وفي ذات الشهر زرت الجزائر العاصمة، وما شاهدته في مخيم جنين أعادني إلى بداية أعوام الستينيات من القرن الماضي حين كنت أعمل في الجزائر العاصمة، وشاهدت كيف أن وحدة العمل بين مكونات الثورة الجزائرية قادتهم إلى النصر على المستعمر الفرنسي، وهذا كان حال مخيم جنين حيث لا تشعر بوجود انقسامات بين مكونات العمل المقاوم في المخيم فجميعهم موحدين في مواجهة آلة الحرب الاحتلالية ويشكلون نموذجا للوحدة الوطنية وصرخة لإنهاء الانقسام ، كما أن شكل المباني والأزقة في هذا المخيم البطل تشكل غطاء مهم لهؤلاء الثوار وهي شبيهة إلى حد كبير ببيئة حي “القصبة” في الجزائر العاصمة ومخيم جنين يحفظه ثواره كما يحفظ المتحف المركزي للجيش الجزائري ثواره ومجسما للقائد المجاهد عبد القادر الجزائري، وهناك من المتشابهات بين الحالتين الكثير فما تشاهده في عيون نسوة وصبايا وأطفال المخيم يؤكد لك حتمية النصر، كيف لا وهم وهُنّ يربون أبنائهم على الوطنية والعطاء ويحمل الأطفال الأمل وصور الشهداء ويقولون “على دربهم سائرون” نحن سندحر هذا الإرهاب ومن يقف معه، فكيف لهذا الشعب أن يُهزم؟.
وكأنني لم أخرج من مخيم جنين، أو من أزقة القدس أو من أي شارع أو زقاق في أي من فلسطين عندما زرت حي “القصبة” في الجزائر، فحين كنت أمشي في هذا الحي التقيت طفلاً وسألته عن فلسطين، وكم كانت سعادتي كبيرة حين أنشد لي قصيدة عن فلسطين وقد أبكاني كالأطفال، وحدثني وكأنه يعيش معنا ذات المعاناة، هذه هي الجزائر، أم البدايات، فهي احتضنت النضال الوطني الفلسطيني ولا زالت، وهي الآن تفتح لنا “طاقة فرج” جديدة من أجل إنهاء الانقسام الفلسطيني،
كلنا أمل أن تصل الجزائر إلى ما تريد ليس فقط في إنهاء الانقسام، وإنما في إنجاح القمة العربية المزمع استضافتها من قبل الجزائر في شهر نوفمبر من العام الجاري، وإعادة الحد الأدنى من الإجماع العربي، والذي أحد أسسه هو إعادة سوريا إلى الجامعة العربية، وإنهاء التطبيع المجاني من قبل بعض الدول العربية مع الكيان المحتل، لأن هذا يخدم فقط مصالح دولة الاحتلال، ويحدث خرقاً فاضحاً للأسس التي تقوم عليها مبادرة السلام العربية المقررة في قمة بيروت عام 2002، ووافقت عليها دول المؤتمر الإسلامي عام 2004، وهي تشكل الحد الأدنى للوصول إلى حل للصراع العربي الإسرائيلي، مع التأكيد أن هذه المبادرة قد لا تشكل الحل الأمثل لهذا الصراع في نظر البعض كحد أدنى ، وليبقى خيار الدولة الفلسطينية من النهر إلى البحر كدولة ديموقراطية واحدة لجميع ساكنيها مطروحا كما أعلنت عنه حركة فتح في مؤتمرها عام 1968 في دمشق .
كما فتحت لنا الجزائر “طاقة فرج” لإنهاء الانقسام، وكما فتحت لنا عزيمة هذا الجيل “طاقة فرج” لإعادة الاعتبار للنضال الوطني الفلسطيني، علينا جميعاً أن لا نقفل نوافذ الفرج هذه، لا بل علينا أن نعمل من أجل أن تبقى مفتوحة وصولاً إلى ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني الذي يبدأ بإنهاء الانقسام، والذي يشكل الركيزة الأساسية لدعم النضال الوطني الفلسطيني وصولاً إلى حقنا في تقرير مصيرنا، وهذا الأمر يمكن له أن يكون في حال أن كان لدى أطراف الانقسام إرادة سياسية وقراراً بإنهائه.
إنهاء الانقسام يعني أساساً توظيف كل تناقضاتنا الداخلية ضد التناقض الرئيسي مع الاحتلال، فلننتصر لدعوة الجزائر ولننتصر لدماء شهدائنا، ونفعلها ونعيد قطار النضال إلى سكته، ولنردد مقطع من النشيد الوطني الجزائري ينطبق علينا حين يقول: (صرخة الأوطان من ساح الفدا… فاسمعوها واستجيبوا للندا… واكتبوها بدماء الشهدا… و اقرأوها لبني الجيل غدا… قد مددنا لك يا مجد يدا)، فعلاً تعالوا لنكمل طريقنا نحو الوحدة، ونحو العودة، هذه الطريق التي لا زالت تُعمّد بدماء الشهداء، ولا يجوز لأحد منا أن يخون هذه الدماء وهذه التضحيات، فقد قالها الشعب الفلسطيني لكل أمهات الشهداء وعلى لسان شاعره أحمد دحبور (لا تلبسِ السواد أم المكارم … فموته ميلاد والفجر قادم)، وهذا دينٌ علينا أن نوفيه.
ما أجمل المقارنة بين بلد المليون ونصف المليون شهيد الجزائر ، وبين أرض الصمود والرباط فلسطين ، بين جنين القسام ، وقصبة بوحيرد ، وقدس البطولة والفداء ، وما أجل القدس الذي شرفني أن أنجب ابنتي دينا في الجزائر ، ولتنجب دينا حفيدتي جنين والتي سميت بجنين إبان اجتياح جنين عام 2002 وبإذن الله تعالى حين تتحرر فلسطين نمضي بين توأمة أبدية من الجزائر العاصمة والقدس العاصمة .
لــِ “ضياء” الحق و”رعد” الثورة… زغردت جميلة بوحيرد
10