عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب
من الصعب ان يصادق صحفياً رجل أمن فكيف إن كان مديراً للمخابرات، لأن الصحفي في القضايا العامة كمن يمشي في حقل الغام او كمن يحلق لرأس مصابة، ورجل الأمن غالبا ما تضيق به حرية التعبير او ابداء الرأي، ولكن العلاقة مع “ابي ثامر” كانت فوق ذلك وبعد ذلك سواء معي او مع بعض الزملاء وحتى النواب وقادة الاحزاب، فقد كان يحب ان يسمع لهم ويشجعهم على ابداء ارائهم بحرية..
حين رحل الباشا “أبو ثامر” محمد الرقّاد كنت مريضا في المستشفي، فلم استطع ان اعزي او اخرج لجنازته او حتى اكتب، وقد منّ الله على بالشفاء بعد اقامة طويلة في المستشفى بلغت شهرين الا قليلا، اليوم تصادف الذكرى الاولى لرحيله وقد تذاكرت سيرته مع الصديق جمال الرقّاد فذكرني بالمناسبة..
ورغم أن الرجل اشغل مدير المخابرات وهو موقع شائك قد يدخله المنتسب بصورة أسهل بكثير من الخروج منه وفي ذلك قصص كثيرة، إلاّ ان الرقّاد خرج كما دخل واحتفظ بسجل نظيف وظل أصدقاءه في حياته المدنية يذكرونه في كل المناسبات، فقد سمعت ما تحدث به اكثر من صديق، ولم يأتي احد على ذكره بسوء او يلصق به انه كان ظالما او معتديا..
التقيته مرة وكان الحديث عن الهجوم على غزة، وقال : أريد ان استمع لرأيك.. فاستغربت بداية وقال: أأمرني هل تريد شيئا؟ وشكرته مرة اخرى.. فقال: هل مكسور عليك فواتير كهرباء او ماء؟ فابتسمت وقلت: لا انا في شقة صغيرة وصرفي من الماء والكهرباء محدود، ثم انني امد رجلي على قدر فراشي، فاثنى على ذلك وودعته.. واذكر انني قلت له ان البطالة في اوساط الشباب هي التحدي الاساس، فأخذني من يدي مرة اخرى وعاد واجلسني حيث كنت، وقال: سأروي لك ما يلي:
“عندي ولدين خريجين من الجامعة يجلسان في البيت منذ سنة ولم يشتغلا حتى لا يقال أنني توسطت لتشغيلهما، في حين ان الشباب الاخرين لا يشتغلون، وقد قلت لهم ابقوا في البيت حتى ينتهي عملي الرسمي وبعدها تسعون للحصول على وظيفة”، فأدركت إحساسه بالاثارة والايثار والمسؤولية..
وروى لي قصة اخرى “ان أحد اولاده ايضا وبسبب ما كان على علاقة غير جيدة مع احد الدكاترة في الجامعة، وان الدكتور توعده بعدم انجاحه في المادة التي يأخذها وأصر على ان يرسب فيها، وقد تكرر ذلك ثلاث مرات، وحين كان ابني يقول لي (يقول الباشا) كنت اقول لا شك انك تتحمل المسؤولية، وقد اصبح خريجا وهو ما زال يحمل نفس المادة، ويصرّ الدكتور على عدم نجاحه فيها ، ولم أتدخل او أسمح لأحد ان يتدخل، وطالب ابني ان يصلح ورقته دكتور آخر فرفض الدكتور وقال: هذه المادة انا ادرسها واصلح امتحانها، واخيرا اضطر ابني ان يُغير المادة كلها وان يأخذ مادة جديدة بديلة بعد موافقه الجامعة، وتقدم فيها وحصل على علامة عالية وتخرج، وما زال الكثيرون حتى ابني (القول هنا للباشا) يلومونني على ذلك.
احتفظ محمد الرقّاد وهو في مجلس الاعيان بعلاقات طيبة مع الكثيرين ، وظل على صلة بهم وحتى حين انتهى عمله في الاعيان بقى على شبكة علاقات واسعة وطيبة، وقد وجد الناس حوله حين كان مريضاً وحين توفي، وقد زاره جلالة الملك وشيّعه وعزى فيه..
لم تربطني به رابطة خاصة او مصلحة، ولكن اذكر انني حملت اليه شكوى زملاء كتاب وصحفيين جرت الاساءة لهم في مرحلة ما، فكان ان أنصت وسمع واعاد لهم جميعا الاعتبار واطمأن منهم عنهم، وقد نقل كل تلك القصص التي تحدثوا فيها الى جلالة الملك الذي التقاهم في ما بعد..
الرقّاد كان شخصية متوازنة تقيم اعتبارات للعادات والتقاليد والصلات المجتمعية وفي كل المواقع التي تقلدها، ظل يحتفظ بعلاقات جيدة لم تؤثر عليها وظيفته، درب اهله واسرته وكل من تعامل معهم عن قرب على طيب الخلق واحترام الاخرين وعفه اللسان، ورفض كل سياسات الابتزاز والاسقاط ومحاولة النيل من السمعة واغتيال الشخصية بالاشاعة، واوقف في فترة تسلمه الدائرة كل تلك الاشكال من الابتزاز، وافرد مجالا لسماع الشكاوى المرتدة عن الجهاز، رحل الباشا الرقّاد بالمرض اللعين “كورونا” وكان قد شكل رحيله صدمة لاهله ومحبيه، فقد رفض الانتقال للعلاج في الخارج حين اشتدت به الاصابة، ورأى ان يبقى وسط أهله وذويه فالمقدر سيكون..
برحيله وقد مضى عليه سنة نترحم عليه وندعوا له بالمغفرة، وان يتقبله المولى، وندعو لأهله وذويه بالصبر على فراقه، فقد كان باراً بوالديه و بصلة الرحم، علماً في أهله وعشيرته..