كريمة نور عيساوي
أستاذة تاريخ الأديان وحوار الحضارات
كلية أصول الدين
جامعة عبد المالك السعدي، تطوان
مقدمة: مع توافد المهاجرين اليهود على فلسطين بدءا من أواخر القرن التاسع عشر بدأ يتشكل تدريجيا أدب عبري حديث يحمل من حيث سماته الشكلية تقاليد الأدب الغربي في صناعة القصة، ويُعيد من حيث المضمون إنتاج صورة الغرب عن العرب والمسلمين. هذه الصورة التي ستزداد تشوها مع تطور نزعة المركزية الغربية، والأطماع الأوروبية المتزايدة في احتلال الدول، بما في ذلك دول شمال أفريقيا والشرق العربي. وبما أن الصهيونية هي الابن الشرعي للحركة الإمبريالية وللفكر الغربي كانت تحتاج، وهي تنظر للاستيلاء على فلسطين، أن تجد مبررا مقبولا. وقد وجدت ضالتها في تشويه صورة الفلسطيني، ونعته بأبشع الصفات تمهيدا لإضفاء الشرعية على حقها في أرضه. وعلى الرغم من أن الأدب العبري الحديث مر بمجموعة من المحطات فإنه يشترك، على الأقل حينما يستحضر صورة الفلسطيني، في رسم صورة قاتمة عنه لا تختلف إلا من حيث درجة السواد. ونظرا لكثرة القصاصين والروائيين الذين تناولوا بشكل مباشر صورة الفلسطيني فقد اكتفينا في هذه المداخلة بالتطرق إلى موسى سميلانسكي ويوسف حيين برينر ويزهار سملانسكي.
الصورائية والنظرة إلى الآخر:
تندرج هذه المداخلة ضمن ما يُسمى بحقل “الصورائية” أو “الصورولوجيا” أو “الصورية” أو “علم الصورة”، الذي يُعتبر من أكثر حقول الأدب المقارن اهتماما ورصدا للعلاقات بين الشعوب، واحتكاكها وتواصلها الثقافي. ويُعرفها نوافل يونس الحمداني بأنها العلم الذي يُعنى بدراسة الصور الثقافية التي رسمتها الشعوب عن بعضها، المنبثقة من تحت وطأة غياب أو المتسربة من مسكوت عنه، و (التي) تهتم برصد انطباعات المجتمعات، الرابضة في مخيال الوعي الجمعي .
ويُحيلنا تاريخ الآداب العالمية سواء من خلال الرحلات أو غيرها على مادة أدبية غنية تختزن بداخلها صورة الآخر كما يراها ويتصورها المبدع المنتمي إلى ثقافة مغايرة. ويكفي أن نقوم بعملية قراءة سريعة للأدب العربي لنقف على الصور التي كانوا يحملونها عن الفرس أو الروم أو غيرهما من الأعاجم. ولابد من التأكيد على أن أدب الرحلات يُشكل لوحده مفتاحا لولوج عالم الصور بكل تبايناته وتناقضاته. ومع بداية العصر الحديث، وما شهده من تحولات اقتصادية وسياسية وفكرية، بدأت أوروبا تنحت تدريجيا صورا عن شعوب مستعمراتها أو شعوب الدول التي تُخطط للهيمنة عليها. كما رسمت صورا في غاية البشاعة عن بعض أقلياتها الدينية، وأقصد، تحديدا، الأقلية اليهودية التي أُلصقت بها أسوأ الصفات، وأرذل النعوت، ومن ثم نشأت طوال التاريخ الأوروبي صورة نمطية عن اليهودي باعتباره مصاص دماء. ولم تتحسن هذه الصورة قليلا بدءا من القرن الثامن عشر إلا في بعض الأوساط العلمية. وفي دول أوروبية بعينها. وسيكون من الصحيح القول حسب سعد البازغي بأن الصلة الوثيقة بين الديانتين (المسيحية واليهودية) وأتباعهما لم تكن دائما صلة قربى وتآلف، كما يظن بعض العرب والمسلمين، بل تنطوي على قدر كبير من الكراهية والعداء السافر أحيانا والخفي أحيانا أخرى .
ومن المفارقات أن هؤلاء اليهود أنفسهم الذين كانوا يُمثلون نقطة سوداء في الوعي الجمعي الأوروبي ، و الذين كانوا لقرون طويلة ضحية اضطهاد مسيحي شعبي لا يتوارى حينا من الزمن إلا لكي يظهر بشكل أكثر بروزا وحدة ما لبثوا أن استغلوا هذه الوضعية التي تفاقمت في أنحاء مختلفة من أوروبا (خاصة أوروبا الشرقية) من أجل تأسيس الحركة الصهيونية. والظاهر أن فكرة العودة إلى ما يُسمى بأرض الميعاد في الفكر الديني اليهودي، كما نظرت لها هذه الحركة العلمانية، لم تكن في مثل هذه الظروف سوى مبررا ضمن مبررات أخرى لمقاومة دعوى الاندماج التنويرية التي كان يتبناها مفكرون وقادة سياسيون آخرون، خاصة أن هذه الفترة كانت عصر التوسع الإمبريالي،و نشأة الحركات القومية.
ومن النتائج المباشرة التي تمخضت عنها الحركة الصهيونية هو توافد اليهود على فلسطين للاستيطان بها، وذلك على شكل هجرات جماعية. الهجرة الأولى كانت عبر السنوات 1882-1885 وسنة 1890، وهي الهجرة التي حملت إلى فلسطين حوالي ألف وخمسمائة يهودي في السنة. وفي سنة 1907 بدأت الهجرة الثانية التي حملت إلى فلسطين حوالي خمسين ألف يهودي. وفي سنة 1922 بدأ عدد اليهود في التزايد مع موجة الهجرة الثالثة .
وكان من الطبيعي أن تُحدث هذه الهجرات اليهودية المتتالية تغييرا ليس فقط على المستوى البنية العامة للسكان، وهو ما سيتجلى فيما بعد، وإنما أيضا على مستوى العلاقات الجديدة بين السكان الأصليين والوافدين الجدد. كانت فلسطين على الدوام، ولاسيما بعد ظهور الإسلام، فضاء تتعايش فيه جنبا إلى جنب الديانات السماوية الثلاث، وكانت القبلة التي يحج إليها اليهود والمسلمون والنصارى على حد سواء، وكثيرا ما كان البعض منهم يطيب له الاستقرار بها بشكل نهائي. غير أن هجرات القرن التاسع عشر فما فوق نحو فلسطين كانت تختلف تماما. فالدافع الديني قد ينطبق، مثلما هو الحال في الماضي، على أفراد أو جماعات محدودة من حيث العدد. إن الهدف في هذه الحالة يتجاوز مجرد الزيارة أو الهجرة التي تنتهي أحيانا بالاستقرار هناك إلى التفكير أو التخطيط للاستيطان. وهذا ما سيحدث فعلا حينما يتحول الاستيطان التدريجي إلى انتزاع الأرض من أصحابها. كما أن المهاجرين اليهود، أو على الأقل القسم الأعظم منهم، قدم إلى فلسطين من أوروبا، حاملا معه ثقافة غربية. وليس غريبا أن يُنعتوا من قبل الفلسطينيين باسم الخواجات. وما لبثت أن انخرطت النخبة اليهودية في حركة التأليف والإبداع. وبرز من بين هذه النخبة قصاصون وروائيون وشعراء يعتبرون في حقيقة الأمر امتدادا طبيعيا لما أرساه أسلافهم في حقبة التنوير (الهاسكالا) من أسس الأدب العبري الحديث، وما يقتضيه من اقتفاء للغرب في تقنيات الكتابة القصصية والروائية، واتخاذ اليديش أو العبرية لغة الإبداع.
مراحل الأدب العبري الحديث:
يمكن تقسيم الأدب العبري الحديث إلى المراحل الآتية :
– مرحلة التنوير (الهاسكالا) (1780-1880): وتتميز هذه المرحلة بالدعوة إلى اندماج اليهود في المجتمع الأوروبي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، مع التمسك بالثقافة اليهودية. ويقع مركز أدب هذه المرحلة في أوروبا الشرقية التي شهدت ظهور كتاب يهود أمثال إبراهيم مابو Abraham Mapou (1806-1867) القصاص العبري الأول Mendele Mokher Sefarim – Mendele (1836-1918)الذي كان رائدا في كتابة الرواية باليديش والعبرية.
– مرحلة محبي صهيون (1880-1900): اشتهر كتاب هذه المرحلة بإبداء اعتراضهم على بعض أهداف حركة الهاسكالا، وكان هناك ميل واضح نحو الشعر الذي يتغنى بالشعب اليهودي وبأرض الميعاد. وبدأت اللغة العبرية في الوقت نفسه تتحرر من القوالب القديمة في التعبير لتكون أقرب إلى لغة الحديث اليومي، وتزامن ذلك مع الانتشار المطرد للصحافة العبرية (Ha-Tsefirah, Ha-Melits, Ha-’Or ; revue Ha-Shiloah).. وشهدت هذه الحقبة انطلاق الهجرة الأولى من أوروبا الشرقية نحو فلسطين. ومن أبرز الكتاب نذكر Naphtali Herz ’Imber (1856-1909) صاحب قصيدة Ha-Tiqvah التي كانت ستصبح النشيد الوطني لدولة )إسرائيل( و Menahem Mendel Dolitzky (1856-1931) و حاييم نحمان بياليك – Hayim Nahman Bialik (1873-1934) و أحاد ها عام ’Ahad Ha-‘Am (1856-1927)
– مرحلة الإحياء (1900-1920): وهي مرحلة ازدهار الأدب العبري المكتوب بالعبرية واليديش في أورويا الشرقية تحديدا، وبداية انتقاله إلى فلسطين التي ستدخل خلال هذه الفترة فيما يُسمى بمعركة اللغات. إلى جانب حاييم نحمان بياليك الشاعر اليهودي الذائع الصيت عرفت فلسطين كتابا أمثال الشاعر Saül Tchernikovsky (1875-1943)والروائي والقصاصYossef Hayim Brenner (1881-1921) وشالوم عليخم Shalom Aleikhem (1859-1916) وغيرهم.
– مرحلة الرواد (1920-1948): وهي الحقبة التي تميزت بتحول مركز الأدب العبري من أوروبا الشرقية إلى فلسطين،والتزام الأدباء بقضية بناء الوطن القومي لليهود. ومن أبرز الروائيين : Shmuel Yossef ‘Agnon (1888-1970)
– مرحلة جيل تأسيس الدولة أو جيل بالماح حيث ستعيش الواقعية أوج ازدهارها. ومن أبرز كتابها Hayim Haza ((1897-1973 و Smilanski Yizhar و Moshe Shamir و Aharon Megged
– مرحلة التيار الجديد (1970-1990): يُمثل جيل السبعينيات نزعة ردود الفعل ضد الأسلاف أو الآباء، مع ما يتطلبه هذا الموقف الانفعالي من عودة إلى الذات، ومن تجديد في الكتابة، ومن تجريب في الفن الروائي. ذاع في هذه الحقبة صيت روائيين أمثال ’Amos ‘Oz و Abraham B. Yehoshua و Benjamin Tammouzو David Shahar (1926-1997) و Amnon Shamosh
– مرحلة الأدب الأدنوي “المعاصر” (من 1990 إلى الآن): يتألف أساسا من الجيل الذي وُلد قبيل أو بعد حرب الستة أيام، ومن أهم ما يتميز به الانكفاء على الذات، وإحداث قطيعة مع الإيديولوجيات، وتوظيف لغة فقيرة على المستوى المعجمي، وتناول مواضيع من الحياة اليومية العادية. يمثل هذا الجيل كل من Orly Castel-Bloom و Etgar keret و Ouzi Weill و Gafi Amir و Sami Berdugo
يُستخلص، إذن، مما سبق أن بدايات الأدب العبري الحديث رأت النور في أوروبا الشرقية حيث كان اليهود يشكلون أقلية دينية، وأن امتداد هذا الأدب تحقق في فلسطين التي بدأت منذ القرن التاسع عشر تستقبل، تنفيذا لما رسمته الحركة الصهيونية، موجات متتالية من المهاجرين. ومن بين صفوف هؤلاء سينبثق أدباء وفدوا إلى فلسطين، وهم محملين بثقافة غربية إن على مستوى المظهر أو على مستوى الفكر. إلا أنهم كانوا، في المقابل، متمسكين بيهوديتهم، لاسيما حينما يتعلق الأمر بأحقيتهم فيما يُسمى في الأدبيات اليهودية بأرض الميعاد. ومن هنا ستتحكم في نظرتهم إلى الفلسطيني عوامل ثلاثة:
1- انتماءهم إلى أوروبا
2- تمسكهم باليهودية
3- وضعية فلسطين
إن انتماء الأدباء اليهود إلى الفضاء الأوروبي، وتشبعهم بثقافتها جعلهم ينظرون إلى الفلسطيني أو العربي عموما النظرة الغربية المعهودة. يقول إفراييم ريفلين في هذا السياق بأن الكتاب اليهود المنحدرين من أوروبا الوسطى (موسى ساميلانسكي وغيره) أو أولئك الذين وولدوا في هذه البلاد، والذين اقتاتوا من حكايات ألف ليلة وليلة وقصص البدو رسموا صورة للعربي مستقاة من التصور الغربي له. ولهذا فإن قصصهم العربية أو قصصهم على النمط العربي لم تنج من فخاخ الصور النمطية ، ويظهر ذلك في تناولها لمواضيع الخضوع المطلق للقدر و حب الانتقام و الدفاع عن الشرف.
أما تمسك هؤلاء الأدباء باليهودية فهو لا يعني بأي حال من الأحوال ارتباطهم بالشعائر الدينية بقدر ما يُراد به إيمانهم بأنهم أصحاب هذه الأرض، أرض فلسطين، وأن سكانها من الفلسطينيين هم مغتصبون لها. وذهب الفكر الصهيوني الذي كان يعيش أزهى فتراته إلى حد الزعم والترويج بأن فلسطين أرض بلا شعب، وأن اليهود شعب بلا أرض. وليس صدفة تغييب مصطلح “الفلسطيني” ذي الحمولة التاريخية، وتعويضه بمصطلحات عامة وفضفاضة مثل عربي أو بدوي أو فلاح.
وإذا كانت نظرة الغربيين إلى اليهود في العصور الماضية، المتسمة بكثير من العداء، تجد مصدرا لها في اتهام المسيحيين لليهود بمسؤوليتهم في صلب المسيح عليه الصلاة والسلام فإن اليهود بدورهم لم تكن علاقتهم بالعرب خالية من الشوائب. ويبدو أن نظرتهم السلبية إلى العرب مرتبطة حسب مناف نعمان عبد الغني ارتباطا وثيقا بمعتقدهم الديني ولاسيما بما ورد في العهد القديم والتلمود من إشارات عن تورطهم في السرقة والسلب والقتل . وكان لهذا الأمر أبلغ الأثر في أفكار اليهود عامة وأدبائهم بشكل خاص . ومن الأسماء التي أُطلقت عليهم اسم العرب والإسماعليين وأبناء قيدار .
ويرى إفراييم ريفلين أن علاقة التقابل يهودي عربي أو ما ينعتهم بالأخوة الأعداء الحاضرة بقوة في الأدب الإسرائيلي الحديث تطرح هذه القضية في صيغة الهوية والغيرية التي تحيلنا دوما على قصة إسحاق وإسماعيل . ودون دخول في التفاصيل فإن ما هو مهم بالنسبة إلينا هو أن إسحاق كما جاء في سفر التكوين، الإصحاح 26 هو رجل السلام الذي يبدد سوء التفاهم، ويوقع العهود، ويسهر على السير الجيد للمجتمع. أما إسماعيل فيتمرد على الوضع القائم: «وَانَّهُ يَكُونُ إنسانا وَحْشِيّا يَدُهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَيَدُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَيْهِ وأمام جَمِيعِ إخوته يَسْكُنُ» . إسحاق يحفر الآبار ويحول الصحراء إلى مكان آهل بالسكان كما جاء في سفر التكوين، الإصحاح 26. وإسماعيل يعيش في الصحراء ومن الصحراء: وَكَانَ اللهُ مَعَ الْغُلامِ فَكَبِرَ وَسَكَنَ فِي الْبَرِّيَّةِ وَكَانَ يَنْمُو رَامِيَ قَوْسٍ .
غير أنه يجب التنبيه إلى أن صورة الفلسطيني في الأدب العبري الحديث لم تبق ثابتة وقارة، وإنما خضعت لجملة من التقلبات التي لها علاقة مباشرة بما كان يحدث في فلسطين نفسها، خاصة على المستوى السياسي. فبعض الأدباء اليهود عاشوا تجربة الهجرة في بلد كان يقع آنذاك تحت نفوذ الدولة العثمانية، واكتشفوا لأول مرة شعبا كانوا يعرفونه فقط من خلال العيون الأوروبية أو عبر الروايات التوراتية. بعد ذلك أصبحت فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وبدأت أطماع المهاجرين اليهود تتضح. وبدأت تتوارى تدريجيا الصورة الاستشراقية للفلسطيني لتحل محلها صورة أخرى، صورة المقاوم / الإرهابي. وستترسّخ هذه الصورة مع تأسيس دولة “إسرائيل”. كما أن الأدباء اليهود أنفسهم انقسموا إلى يهود وفدوا إلى فلسطين من أوروبا الشرقية أو غيرها ويهود فتحوا أعينهم في فلسطين أو )إسرائيل( و يهود حاربوا بضراوة من أجل بقاء هذه الدولة.
صورة الفلسطيني قبل 1948: عند موسى سميلانسكي يوسف حاييم برينر:
يتفق موسى سميلانسكي ويوسف حييم برينر في انحدارهما معا من أوكرانيا، وهجرتهما إلى فلسطين ضمن الهجرات الأولى، الأول سنة 1891 والثاني سنة 1909. وكل واحد منهما يحمل صورة متقاربة عن الفلسطيني حتى وإن كانت نظرتهما إلى الوضعية العامة متباينة. فموسى سميلانسكي ينضوي ضمن الأقلية التي كانت تحاول أن تُحسن العلاقة ما بين العرب الفلسطينيين واليهود، كما كان يأمل في قيام دولة ثنائية القومية بفلسطين. وعلى الرغم من أن تقسيم الأرض وضع حدا لهذا الأمل فإنه لم يتوان عن السعي نحو التقريب بين الشعبين اعتمادا على اشتراكهما في الأصل السامي والتاريخ المشترك. وكان يعتقد بأن هذا المشترك يمكن أن يكون أساس حل مشكل سوء التفاهم . أما يوسف حييم برينر فاشتهر بتشاؤمه، ولم يشعر في يوم من الأيام بأنه في بلده حيث يمثل الفلسطينيون أغلبية لها حساسية مفرطة ضد الوجود الأجنبي. وكان له موقف معارض لأولئك الذين ينادون بالتقريب بين الشعبين. يقول في إحدى مقالاته: «في أرض إسرائيل الصغيرة يعيش على الأقل، ضمن سكان آخرين، ستة آلاف أو سبعة آلاف عربي. وهؤلاء، وعلى الرغم من فقرهم المدقع وجهلهم المطبق فإنهم أصحاب الأراضي الحقيقيون. ولقد تسربنا إليهم والعيش بين ظهرانيهم لأن الضرورة هي التي دفعتنا إلى ذلك. إن الكراهية بيننا موجودة سلفا و لا أحد يمكنه إيقافها وستستمر» .
وبما أن العمر امتد بموسى سميلانسكي إلى 1953 فإن أعماله الروائية والقصصية تصور بدقة متناهية مسار البطل بدءا من وصوله إلى فلسطين، واستقراره بها، واقتناء الأراضي، والمشاكل المتعددة التي واجهها بما في اصطدامه مع السلطات التركية، واعتداءات الجيران العرب، ومشاكل التموين، والأوبئة، ثم يتناول العراقيل التي كان يعاني منها المستوطنون القدامى. كما أن التحولات التي حدثت بعد ذلك، خاصة وقوع فلسطين في قبضة الانتداب البريطاني، ولجوء اليهود إليها إبان الحرب العالمية الثانية وما نجم عن ذلك من تزايد العداء العربي نحو بريطانيا والوجود اليهودي. هذه التحولات كلها كان لها صدى في كتابات موسى سميلانسكي. وأسهم تأسيس دولة “إسرائيل” في اندلاع الحرب بين هذه الدولة وجيرانها العرب، وهو الأمر الذي دفع الكاتب إلى أن يُطلق على إحدى رواياته الأتوبيوغرافية عنوان “آلام الوضع”.
وعلى الرغم من تنوع المواضيع التي تناولها موسى سميلانسكي في إنتاجه الروائي والقصصي فإن صورة الفلسطيني تتسم بحضورها القوي. ومن المهم الإشارة إلى أن الكاتب يميز منذ البداية ما بين القبائل الرُحل التي تجوب الصحراء طولا وعرضا، والتي يعتبرها نموذجا للعرب الأقحاح والفلاحين أو الأفندية الذين هم في نظره أقل شأنا وخليطا غير متجانس من السكان . وفي أول لقاء له مع العرب، وهو الاسم الذي كان يُطلق على الفلسطينيين، يتساءل متعجبا: ماذا يفعل هؤلاء العرب هنا؟ لماذا هم على هذه الدرجة الكبيرة من الفاقة والقذارة على الرغم من أن الأرض المحيطة بالقرية تبدو خصبة ومعطاء؟ .
وعلى غرار العديد من المهاجرين اليهود كان يعتقد جازما أن أرض فلسطين أرض خلاء وغير مسكونة. إن محبي صهيون كانوا على يقين تام بأن هذه الأرض خلاء…وأن القلة من الساكنة التي تقيم هنا بربرية ومتوحشة لا يجدر بنا أن نأخذها بعين الاعتبار . غير أن الواقع كذب هذه التصورات، لهذا كان مضطرا لقبول هذا الواقع، ورأى أن سوء التفاهم ما بين العرب واليهود مصدره مشكل الأراضي والتقاليد العربية والعقلية العربية وغياب لغة مشتركة .
ويمكن من خلال قراءة عامة لمجموعة من القصص، خاصة عمله القصصي ( בני ערב) أن نستخلص جملة من الصور النمطية التي رسمها موسى سميلانسكي عن الشخصية الفلسطينية:
سلطة الماضي والموقف المتحجر من التطور:
تروي قصة عبد الهادي علاقة هذه الشخصية بالبندقية العجيبة التي ورثها عن أبيه صالح. «مرت سنوات وعبد الهادي كان قد تزوج وأنجب أبناء. إنه يحب زوجته وأبناءه. ومع ذلك فأبناء القرية كانوا يقولون: إن عبد الهادي يحب بندقيته أكثر من حبه لزوجته، وأولاده وماشيته..وعبد الهادي كان يقول: هذه البندقية لم تخطئ الهدف مرة واحدة. ولقد آمن الجميع بكلامه بعد أن قتل أحد الظباء». وبسبب تمسكه الغريب بهذه البندقية رفض بيعها بثمن مرتفع، كما أنه لم يقبل إعفاء ابنه من الجندية مقابل تخليه عنها لأحد الأعيان. وحتى عندما بدأت البندقية تخطئ الهدف استمر متشبثا بها لا يرضى أن يغيرها ببندقية أحدث اقتناعا منه بأن بندقيته أفضل لأنها قديمة، وفي عصرنا هذا :ما يردد عبد الهادي ليست هناك صناعات لبنادق مثل هذه. فقط في عصر إبراهيم باشا يعرفون صنع بنادق جيدة.
سلطة القدر وعدم القدرة على مواجهته:
ففي قصة “أبي الكلب” نجد أنفسنا وجها لوجه أمام شخصية عبد الله الذي يعاني الأمرين من سواد بشرته، والذي يقف عاجزا اتجاه سخرية الناس منه، واعتدائهم عليه. وشعوره بالوحدة جعله يتخذ كلبا أبيض صديقا له. الكلب نفسه لم يسلم من الأذى فقد ضربوه حتى الموت. والأمر نفسه ينطبق على شخصية العريس في قصة “العريس” الذي حالت بشاعته وضخامته في أن ينجح في حياته الزوجية.
سلطة غريزة الجنس و غلبة الشهوانية:
لا تخلو قصص موسى سميلانسكي من حديث طويل أو مقتضب عن المرأة، ومن إشارات ماكرة إلى غلبة الشهوانية في شخصية الإنسان العربي. وتبرز قصة “القبلة القاتلة” كيف أن الشيخ خليل حلت به مصيبة تتمثل في أن أبناءه يولدون أصحاء وأشداء، لكن بمجرد بلوغهم سنة الثالثة عشر أي سن البلوغ، وما إن ينظروا إلى المرأة فإنهم يموتون من القبلة الأولى. وفي قصة “مبروك” نطلع على طمع مبروك في الفتاة التي آواها بطلب من الراوي: « اليوم الموعود أقبل، فالمزارع أطلق سراحه، أسرعت إلى خيمة مبروك، ونقلت إليه الخبر حثا إياه على ملاقاة الشاب ودله على مخبأ حبيبته، والإسراع في مرافقته إلى القاضي لكي يعقد عليها. غير أن قسمات وجه مبروك التوت من الغيظ والتذمر، وقال مصمما على رأيه:
-لن أذهب
– كيف؟
قهقهت بصوت مرتفع فرد علي منفعلا: لماذا تضحك؟ أو لست رجلا مسلما أنا الآخر؟
-يا مبروك إنها فتاة في ريعان شبابها، وأنت رجل مسن. لك زوجتان وترعى الأولاد، وهي تعيش لشخص آخر، ومن أجله عرضت نفسها للخطر.
المرأة وسلطة المجتمع الذكوري:
تعكس صورة المرأة وضعية المجتمع العربي حيث للتقاليد دور كبير في النظر إليها بأنها تابعة للرجل، وبأنها مسلوبة الإرادة لا حق لها في اختيار شريك حياتها. في قصة “لطيفة” تسأل لطيفة: هل يا خواجة لا تتزوجون سوى امرأة واحدة؟
-نعم امرأة واحدة فقط.
-و لا تضربونها
– لا كيف يمكن أن نضرب المرأة التي نحب، والتي تبادلنا الحب.
-والمرأة عندكم تختار من تحب؟
-طبعا
-نحن هنا نباع كالحمير.
كانتا عينا لطيفة في هذه الأثناء أكثر جمالا، وعمقا وسوادا.
-أضافت بعد فترة من الزمن قائلة: أبي يقبل أن يزوجني منك إذا ما اعتنقت الديانة الإسلامية.
دون شعور مني انفجرت ضاحكا. نظرت إلي لطيفة. عيناها كانتا تطفحان بألم عميق.
-أجبتها قائلا: لطيفة تهودي وأتزوج بك.
-أبي سيقتلنا معا في هذه الحالة.
أرغمت لطيفة على الزواج من ابن الشيخ. أما فاطمة في قصة “بنت الشيخ” التي أغرمت بابن الشيخ إبراهيم فكان مصيرها الموت. تطاير الشرر من عيون النساء. اغتظن من جمال فاطمة وشجاعتها وهدوئها..رمت واحدة من أولئك النسوة جرتها على رأس فاطمة، وبدأن جميعا في الصراخ، وفي رميها بالجرار. وفاطمة صامتة لا تنبس ببنت شفة و لا تحرك ساكنا. سقطت فاطمة أرضا.والنساء يواصلن ضربها على رأسها، على قفاها، على بطنها. وفاطمة جامدة في مكانها. ماتت فاطمة، والنساء ما زلن يضربن ويصرخن، يصرخن ويضربن.
وفي مقابل صورة الفلسطيني التي ألصقت به كل الصفات السلبية الخلقية والخلقية تنتصب صورة اليهودي المهاجر الذي يصبح أشبه بالمنقذ أو المخلص. في قصة “أبي الكلب” يقول الراوي: في أحد الأيام ذهبت لزيارة هؤلاء البدو بحثا عن حارس لمزرعتي. فكان أن وافق الراعي العجوز الأسود على المضي معي. وفي إحدى الليالي جلسنا سوية نتسامر فحكى لي قصة حياته: بعد أن أنهى حديثه لاذ بالصمت للحظات، ثم استأنف قصته قائلا كما لو أنه كان مبدأ أساسيا: أما الكلب فقد كان أبيض هو…وفي قصة “العريس” فيقول الراوي: أنا فقط الذي كنت أدعوه دائما أبا حليمة ولأجل ذلك أحبني، فهو كان حارسا لمزرعتي. لقد كان يجلب الطفلة معه. وفي قصة “مبروك” وجدت الفتاة العربية الهاربة ملجأ عند الراوي الذي أحسن ضيافتها ثم وجد لها ملجأ عند مبروك.
يوسف حييم برينر
في أول لقاء ليوسف حييم برينر مع العرب في أزقة حيفا يشعر بخيبة أمل مفاجئ، وينتابه إحساس بأنه أمام حلم مزعج يُذكر اليهود بأن العالم الذي يحلمون به لا وجود له، وأنه مجرد غريب وسط غرباء آخرين .ولم يتردد في أن ينعت العرب بأنهم خسيسين وقذرين. في قصة “تل حي” يقول برينر عن العرب ما يلي: حدث ذلك الأمر على الحدود الشمالية في كفار جلعادي وتل حي. كان الجو مشحونا بالتوتر، قبائل البدو المتوحشين ثارت ضد الفرنسيين، وأعلنت الحرب أيضا على رجال كفار جلعادي وتب حي وهي تواقة للسلب والنهب. كانت تلك الأيام هي أيام حصار ووقوف على أهبة الاستعداد. خرج الرجال إلى الحقول لغرض الحراثة والبنادق على أكتافهم وكانوا يقظين ومتنبهين في ظلمة الليل حيث طلقات الموت تدوي في الجبال . وفي قصة “من هنا وهناك” تترسخ بشكل واضح صورة العربي الذي لا يفهم سوى لغة القوة. فالعمال اليهود الثلاثة (الأعرج والمسن والمراهق) سيعتدي عليهم فارسان عربيان. الأعرج وحده يفشل في أن يفر بجلده. كما أن فارسا عربيا سيعترض طريق المحدب وأخيه تصفي. طلب الفارس العربي منهما شيئا ما. غير أنهما لم يفهما شيئا. وعوض أن يجيب على طلب الفارس العربي أخرج تصفي بندقيته. أما المحدب قام بشكل غريزي بخطوات وهو يعدو استعدادا للجلوس على الأرض كما اعتاد أن يفعل كلما صادف في طريقه الكلاب. أمسك به الفارس العربي وغرس فيه السكين كأنه يمزح ثم اقترب في رمشة عين من تصفي وانهال عليه بضربة قوية وركله ركلتين قبل أن يمتطي حصانه . وتعقيبا على الحادث على الرغم من ذلك فإن التفكير السائد الذي لا يتم التصريح به علنا هو: إنه لأمر حسن ألا ينطلق مسدس تصفي وهو شقيق القتيل، فيقتل عربيا، لأنه لولا ذلك لكان العرب قد أخذوا بثأرهم من كل يهودي يسكن في المستوطنة .
صورة الفلسطيني بعد تأسيس “دولة إسرائيل”
ينتسب أدباء هذه المرحلة إلى جيل “بالماح ” الذي شهد تأسيس الدولة، والذي جمع من ناحية الانتماء الإيديولوجي ما بين الفكر الصهيوني والمرجعية الاشتراكية. ووجد هذا النوع من الفكر طريقه إلى التحقق فيما يُسمى بالكيبوتس .
وإذا كانت صورة الفلسطيني أو العربي قبل 1948 هي في مجملها خليط من الصور النمطية التي ورثها المهاجرون اليهود عن الفكر الغربي، والتي أضافوا إليها صورا أخرى بسبب احتكاكهم المباشر بالواقع الفلسطيني فإن حرب 1948 فصلت بشكل نهائي ما بين اليهود والفلسطينيين، خاصة مع تناقص أعدادهم. فبعد أن كان عدد الفلسطينيين قبل قرار التقسيم سنة 1947حوالي مليون ومائتي فلسطيني فإن عدد ما بقي منهم داخل الدولة بُعيد تأسيسها لا يتعدى مائة وخمسون ألف. وتُصور بعض قصص هذه المرحلة التي عرفت حرب إبادة حقيقية للشعب الفلسطيني الإحساس بالذنب الذي انتاب بعض شخصيات يزهار سميلانسكي. إحساس بالذنب لا يتبعه أي رد فعل إيجابي لصالح الفلسطيني. ففي قصتي “الأسير” ( השבוי ) و”خربة خزعة” ( חרבת חזעה ) اللتين صدرتا سنة 1948 تكشفان عن ردود فعل الجنود أمام واقع الحرب. فالجندي الإسرائيلي في قصة “الأسير” لا يشعر بالارتياح والعربي الذي تم أسره ليست له ملامح تميزه، هو فريسة فقط. والأسر حدث لأنه من غير المعقول أن يعود العسكري خالي الوفاض. اقتيد الراعي الأسير إلى المعسكر بحجة الحصول منه على أسرار عسكرية، وانهالوا عليه بالضرب المبرح. «لأنه إذا أردت أن تعرف الحقيقة اضرب. إذا ما كذب الشخص اضرب. وإذا ما قال الحقيقة استمر في الضرب حتى لا يواصل الكذب. اضرب لأنه من الممكن أن يكون قد أخفى الحقيقة عنك. اضرب لأنه في متناول يدك. مثل شجرة مائلة اترك المجال أمام الثمار الأكثر نضجا للسقوط» .
وعلى الرغم من تعاطف الراوي مع الراعي، واستنكاره لأسلوب العنف والتحقير الذي مارسه الجنود الإسرائيليون ضده فهو كما تصفه القصة مخلوق بدائي جاهل غافل لا يعي ولا يدرك ما يدور حوله، ورغم هذا يُطلب إليه الإفضاء بأسرار عسكرية ومعلومات عن العدو المصري. إنه كما يصوره سميلانسكي أشبه بالحيوان، قبيح المنظر منفر الشكل، أبله جبان وذليل ومستسلم وخانع وغافل عن مصيره، لا يعرف كم عمره، يتردد حتى في معرفة اسمه .
وفي قصة “خربة خزعة” يتلقى فيلقا من الجنود الإسرائيليين أمرا عسكريا بتهجير الفلسطينيين من قريتهم “خربة خزعة”. لا يخفي الراوي يزهار سميلانسكي شعوره بالتناقض الحاد ما بين يهوديته التي تأبى فكرة التهجير وعملية طرد الفلسطينيين من قراهم . إلا أنه في المقابل مارس نوعا من العنف والقسوة ضدهم حينما أثار في روايته نفور القارئ واشمئزازه الكبير من سكان هذه القرية، وذلك من خلال تجريدهم من الصفات الإنسانية واصفا إياهم بأقبح النعوت وأكثرها مدعاة للنفور والاحتقار. فهم أشبه بالحيوانات أو الديدان أو الجيف التي تلوث كل شيء. وهم قذرون محتالون جبناء ما إن يروا اليهود حتى يتغوطوا في سراويلهم، وهم أذلاء بلا كرامة يشبهون الكلاب في جلوسهم، ومذعنون كالقطيع مستسلمون للقدر لا تربطهم بالأرض أية رابطة بل إن دوابهم وماشيتهم أهم عندهم من الأرض . إنها بحسب مناف نعمان عبد الغني محاولة يائسة من الأديب يزهار لطمس المعالم الإيجابية للشخصية العربية، وإضفاء معالم سلبية من صنع الفكر الصهيوني المترسخ في عقولهم .
خاتمة
جملة القول إن صورة الفلسطيني في الأدب العبري الحديث لا تُشكل إلا جزءا من الصورة التي نرى لها نظائر على درجة عالية من الإتقان في الإعلام، وفي الفكر، وفي مختلف مناحي الحياة. إن الأمر أشبه ما يكون بحرب خفية. إلا أن أثرها في تغيير الرأي العام الدولي لا يحتاج إلى دليل. لهذا فإن الغاية من رصد وتعقب صورة الفلسطيني في الأدب العبري الحديث تتمثل في تصحيح هذه الصورة، وتنقيتها من الشوائب التي علقت بها، مع إبراز زيف وأكاذيب ومغلطات الحركة الصهيونية.