تجتاح العالم العربي، هذه الأيام، موجة جديدة من موجات التطبيع العربي مع إسرائيل، غير أن الموجة الحالية، والتي تقودها هذه المرة الإمارات والبحرين، تختلف عن سابقتيها، واللتيْن قادت أولاهما مصر الساداتية منفردة في نهاية السبعينيات، ثم قادت ثانيتهما كل من منظمة التحرير الفلسطينية والأردن في منتصف التسعينيات، وذلك من زوايا عدة أهمها: أنها تجري مع دول من خارج “الطوق العربي”، فالإمارات والبحرين ليستا من الدول المجاورة لإسرائيل، ولم تكونا في حالة حرب معها في أي يوم. أنها تأتي في وقتٍ يبدو فيه النظام العربي الرسمي في أسوأ حالاته، خصوصا بعد فشل ثورات “الربيع العربي”، واندلاع الحروب الأهلية والبينية في مناطقه المختلفة. أنها تبدو مدفوعة بعوامل أخرى، ربما أهمها إقامة حلف عسكري في مواجهة إيران، وليس البحث عن تسويةٍ تنهي حالة حرب قائمة، أو حتى تشجيع إسرائيل على تبني مواقف أكثر مرونةً تجاه القضية الفلسطينية. .. ولذا يتوقع أن تكون لهذه الموجة التطبيعية تداعيات أكثر حدّة وخطورة على النظام العربي، وذلك على كل الأصعدة السياسية والأمنية والاقتصادية والفكرية.
على الصعيد السياسي: تشكل هذه الموجة حالةً من التمرّد، أو حتى التنمر الواضح على النظام العربي، بل واستهانة به، وانتهاكا صريحا لمواثيقه ومبادراته، وفي مقدمتها مبادرة السلام العربية التي أقرّتها قمة بيروت عام 2002. وتأتي في وقتٍ تعلن فيه إسرائيل صراحة ليس رفضها شروط التسوية العربية فحسب، وإنما إصرارها أيضا على اعتبار “صفقة ترامب” الأساس الوحيد لأي تسويةٍ مقبلةٍ للقضية الفلسطينية. لذا يتوقع أن تؤدّي إلى مزيدٍ من التعنت الإسرائيلي، وإلى تحييد القضية الفلسطينية كمحدّد للعلاقات العربية الإسرائيلية. ومن ثم يتوقع أن يشهد النظام العربي مزيدا من الانقسامات والإنهيارات، وانفراط عقده بصورة أكبر مما هو عليه الآن. وكان عجز مجلس جامعة الدول العربية أخيرا عن إدانة هذه الموجة من التطبيع واستنكارها، بعكس ما حدث عقب زيارة أنور السادات القدس في العام 1977، مؤشّرا على حالة الإنهاك والتردّي التي أصابت النظام العربي.
وعلى الصعيدين العسكري والأمني: يتوقع أن تؤدي موجة التطبيع الحالية إلى تغييراتٍ جذريةٍ في مفاهيم الأمن، وفي الاستراتيجيات والتوازنات والتحالفات العسكرية في المنطقة، فهذه الموجة تعني، أولا، أن دولا عربية أصبحت ترى في إيران، وليس في إسرائيل، مصدر تهديدٍ لأمنها الوطني، وأنها باتت مستعدّة إلى حد التحالف العسكري مع إسرائيل من أجل مواجهة هذا الخطر، الأمر الذي من شأنه أن يقلب معادلة الأمن القومي العربي رأسا على عقب، فهذا التحالف يعني أن بعض الدول العربية المجاورة لإيران باتت مستعدّة لمنح إسرائيل قواعد وتسهيلات أمنية ولوجستية، تمكّنها من مراقبة ما يجري في إيران مباشرة، بعد أن كان في وسع الأخيرة أن تطلّ بنفسها مباشرةً على ما يجري داخل إسرائيل، من خلال بعض الدول العربية المجاورة لها، وهو ما يشكّل انقلابا كاملا للمعادلات العسكرية والأمنية والاستراتيجية التي سادت في المنطقة عقودا. ولأن إيران سوف تجد في خطوةٍ كهذه استفزازا كبيرا لها لا مبرّر له، فلا جدال في أن من شأن هذه الخطوة زيادة التوتر في علاقتها بالدول العربية، خصوصا الخليجية، وهو عامل من شأنه أن يؤدّي إلى مزيد من عدم الاستقرار في المنطقة. وحتى بافتراض أن إقدام الإمارات على تطبيع العلاقات مع إسرائيل سيتيح لها الحصول على طائرات “إف 35” الأميركية المتطورة، فلا شك في أن إسرائيل ستحصل على ثمنٍ باهظ في مقابل موافقتها على تمرير هذه الصفقة، في صورة صفقات سلاحٍ أكثر تطوّرا، ومزيد من المعونات المالية، وبالتالي سيصبّ، في النهاية، لصالح إسرائيل التي ستظل حريصةً على أن يستمر تفوقها العسكري على كل الجيوش العربية مجتمعة، حتى في حالة التطبيع الكامل لعلاقتها بجميع الدول العربية.
وعلى الصعيد الاقتصادي: يتوقع أن تكون للموجة الحالية من التطبيع العربي مع إسرائيل تداعياتٌ بالغة الخطورة على النظام الاقتصادي العربي ككل، وعلى الاقتصاد الخليجي بصفة خاصة. ويبدو أن إلإمارات تشعر أنها دولة غنية، ولديها احتياطات كبيرة من النفط تمكّنها من استمرار تراكم الفوائض المالية لديها، وتملك شركات ومصارف تتمتع بكفاءة عالية وسمعة عالمية، وبالتالي العديد من عناصر القوة التي تمكّنها من المنافسة في المنطقة مع القوى الإقليمية وربما العالمية. لذا تعكس تصريحات بعض شرائح النخبة الحاكمة في الإمارات أن الاقتصاد الإماراتي يملك من عناصر القوة ما يمكّنها ليس فقط من المنافسة على الصعيد الإقليمي، وإنما أيضا من الاستفادة من تطوير علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع إسرائيل، بوصفها دولة متقدّمة تملك عديدا من عناصر القوة، في مجالات عديدة. لذا تبدو الإمارات مصممةً على المضي في هذا الطريق، غير عابئةٍ حتى بما يمكن أن يلحقه هذا النهج من ضررٍ بدول عربية حليفة، في مقدمتها مصر. وقد ذكرت تقارير صحافية، أخيرا، أن “مؤسسة موانئ دبي” تستعد لدخول المناقصة المتعلقة بخصخصة ميناء حيفا، وأن الإمارات تعتزم ضخ استثمارات كبيرة في مشروعات إسرائيل الرامية إلى ربط ميناء إيلات الواقع على خليج العقبة بالموانئ الإسرائيلية الواقعة على البحر المتوسط، وهي مشروعات قد تؤثر سلبا على قناة السويس.
غير أن هذه النغمة المتعالية توحي بثقةٍ مفرطة، ولا تأخذ في اعتبارها العديد من سمات الخلل البنيوي في الاقتصاد الإماراتي الذي ما زال ريعيا في الأساس، ويعتمد على تصدير النفط بأكثر مما يعتمد على إنتاج السلع والخدمات وتصديرها. ولأن درجة التقدّم العلمي والتكنولوجي في الإمارات محدودة، ولا يمكن مقارنتها بما حققته إسرائيل، يُعتقد على نطاق واسع أن يصبّ أي تعاون اقتصادي بين الإمارات وإسرائيل لصالح الأخيرة، وليس العكس. وذلك لأن قدرة الاقتصاد الإسرائيلي على اختراق بنى الاقتصاد الإماراتي وهياكله تبدو أكبر بكثير من قدرة هذا على اختراق بنى ذاك وهياكله.
وعلى الصعيد الثقافي والفكري والأيديولوجي: يُعتقد على نطاق واسع أن تؤدّي الموجة الحالية من التطبيع مع إسرائيل إلى تداعياتٍ بالغة السلبية على النسق العقيدي للنظام العربي، بل قد تضرب فكرة العروبة في الصميم، ومن ثم تفضي إلى تهميشها تماما، فعندما يكون التطبيع مع دول عربية غنية بعيدة عن حدود إسرائيل، ولم تشارك في أي من الحروب التي اندلعت في مواجهتها، وعندما يكون الهدف الأساسي من هذا التطبيع إبرام تحالف عسكري في مواجهة إيران، يتوقع أن تكون له آثار ثقافية وفكرية وإيديوجية بالغة الخطورة على النظام العربي، فالأجهزة الإعلامية في الدول العربية المطبّعة ستكون أكثر ميلا إلى ترويج أفكار تتناقض تماما مع الأفكار العروبية، وتروّج أطروحات معادية للقضية الفلسطينية وللتضامن العربي، من قبيل: أن الفلسطينيين هم من باعوا أرضهم وعليهم تحمل المسؤولية، ومن ثم لا ينبغي على العرب أن يكونوا أكثر حرصا على القضية الفلسطينية من أصحابها الأصليين، وأن المتطرّفين العرب هم من أهدروا فرص التسوية، وهم “ملوك الفرص الضائعة”. بل لا يستبعد أن تذهب الأبواق الإعلامية للدول الغنية المطبّعة إلى حد إدانة المقاومة الفلسطينية المسلحة، ونعتها بالإرهاب، والعمل أيضا على تكريس فكرة أن إيران، وليست إسرائيل، هي العدو، وأنها المصدّر الرئيسي لتهديد أمن المنطقة ككل، بل لا يُستبعد إعادة النفخ واللعب على المشاعر والتوجهات الطائفية. كما يتوقّع، في الوقت نفسه، تشويه فكرة العروبة، واعتبارها دعوة عنصرية والترحيب بالأفكار التي تنكر الهوية العربية لشعوب المنطقة، وتروّج هويات أخرى، من قبيل “الفرعونية” أو “الفينيقية” وغيرهما. وسيساعد ترويج هذا النوع من الأفكار على ضرب فكرة العروبة في الصميم، وفي وقت يبدو فيه النظام العربي في اضعف حالاته.
لستُ في حاجة هنا إلى إثبات أن إسرائيل تؤمن، إلى درجة اليقين، بأن كل ما هو عربي أو إسلامي، وليس فلسطينياً فقط، يشكل تهديدا حاليا أو محتملا لها. ولذا لا تتوقف كثيرا، في حقيقة الأمر، عند السمة الأيديولوجية للخطاب السياسي الرسمي في أي دولة عربية أو إسلامية، لأن ما يعنيها حقا هو ممارسة الأنظمة القائمة سياساتٍ تتفق مع مصالح مشروعها الصهيوني الكبير، فإسرائيل لا تهتم بما إذا كانت الدولة العربية أو الإسلامية المعنية ديمقراطية أو غير ديمقراطية، وطنية أو قومية، رأسمالية أو اشتراكية، علمانية أو غير علمانية، سنية أو شيعية، وتعتقد أن أي دولة عربية أو إسلامية ذات نظام سياسي قوي ومتماسك، ويمارس سياسةً مستقلةً لا بد أن يشكل بطبيعته خطرا حاليا أو محتملا، حتى لو ارتبط معها بمعاهدة سلام أو حسن جوار.
دعونا أيضا نتذكّر حقيقة مهمة، أن إسرائيل لم تخترع الخلافات أو التباينات أو التناقضات القائمة داخل الدول العربية والإسلامية، لأنها موجودة في بنية هذه الدول وفي تاريخها. كل ما على إسرائيل أن تقوم به، وهو ما كانت وما تزال تمارسه فعلا، العمل على تعميق تلك الاختلافات والتباينات، ودفعها إلى مستوى التناقضات الرئيسية، بل تفجيرها كلما كان ذلك ممكنا ومناسبا لها. لذا علينا جميعا ألا ننسى أن إسرائيل كانت وما تزال هي العدو، وستبقى كذلك دوما. ومن ثم على الشعوب العربية مقاومة التطبيع معها، والحيلولة دون تغلغلها في نسيج مجتمعاتنا.