عروبة الإخباري – صحيح أن كورونا تؤدي إلى تراجع كرة القدم والمسرح، وانحسارهما. ولكن السبب ليس فقط لضمان التباعد الاجتماعي والتحوط لمنع انتشار الفايروس، ولكن لأنهما يمثلان نموذجاً مختلفاً بنيوياً عن نموذج محاربة الوباء. سيكولوجيا الجماهير تتعامل مع المسرح وكرة القدم، مختلفة بنيوياً عن السيكولوجيا المطلوبة في التعامل مع الوباء.
فريق كرة القدم يخوض مباراته مع الفريق المنافس نيابة عن مشجعيه، الذين يكتفون بمشاهدة اللعبة والاستمتاع بها. ولكن محاربة الوباء نموذج مختلف بنيوياً. فلا يمكن كسب المعركة ضد الوباء من خلال مجموعة من المحترفين، في حين يجلس البقية متفرجين في المدرجات. محاربة الوباء تتطلب اولاً نموذج للسلوك الفردي، للحماية والوقاية، وثانياً بناء مناعة لكل أفراد المجتمع، دون أن يترك أحد. ببساطة لن يهزم الفايروس بمعركة لا تشارك بها المجتمعات. فليست الحكومة من ينتصر على الفايروس، ولا الجامعة، ولا مركز البحث العلمي، بل مجمل أفراد المجتمع. عنوان النصر هو تمكين كل فرد من ادوات الانتصار على الفايروس، وهذا مفتاح الدور الفعال للحكومات.
المسرح في ثوراته القريبة التي تتطور عبر العالم، تمرد على تراثه، واخترق الحاجز بين المتفرجين والخشبة. وتوزعت الاضواء لتجعل المتفرجين جزءاً من المسرحية. ففي محاولاته الريادية، قدم «لويجي بيرندلو» مسرحية «الليلة نرتجل»، وكسرت احتكار الممثلين والمخرج لنص المسرحية وسياقها وخشبتها. وأصبح الجمهور يعيد كتابة الوقائع ويؤديها. وأصبحت ليالي العرض بروفات متكررة لمسرحيات في طور الكتابة.
صحيح أن تنويعات المسرح تشمل العديد من أشكال علاقة الدولة بالمجتمع، ولكن الوباء يتطلب تطويرا لقواعد العلاقة بين صناع السياسات والمجتمعات. كما أن محاربة الوباء بمنطق العلم، تتطلب دوراً اجتماعياً وثقافياً جديداً للعلماء، مختلف عن الدور الذي رسم لهم خلال العقود القليلة الماضية.
جهود البحث العلمي والطبي، تنظم وتمارس خلف أبواب مغلقة لا يساهم بها الجمهور. فلقد انحسرت ظاهرة السجالات العلنية للعلماء، وانحصرت ضمن مجموعات الاختصاص وأروقة المختبرات. إذ يقوم العلماء بمهامهم، كما لاعبوا كرة القدم، نيابة عن المجتمع، ولكن الفرق أن التنافس الرياضي علني ويقدم متعة للجميع، في حين التنافس العلمي، لا وجود له خارج الجماعات العملية، فهم الممثلون والنظارة في مسرح العلم.
تزامن ثورة وسائط الاتصال الاجتماعي مع الحرب العلنية ضد الوباء، وتجلياتها السياسية والثقافية والاقتصادية، تمثل فرصة استثنائية لاستعادة السجال العلمي لحضوره الشعبي وفاعليته كمركبة للتقدم، وإعادة فتح «مسرح السجال العلمي» للمجتمعات، لتحريرها من أوهام الأيديولوجيا. ولكن هذا التحول يواجه معارضة. فهناك من يعارض تمكين العلماء من استعادة دور البطولة في المجتمع، بعد أن جرى ترويضهم (واحتكارهم) وتحويلهم إلى مجرد (موظفين) لدى الشركات الصانعة، أو مجرد مستشارين لدى صناع السياسات.
الحاجة الآن للعلماء المستقلين، ليقدموا للمجتمعات قواعد العمل التي تضمن هزيمة الفايروس. فلا يمكن للسياسي، أو الاقتصادي، أو الفنان، أو لاعب الكرة، أن يحل محل العالِم في هذه المحنة. وحدهم العلماء يستطيعون توجيه المجتمعات للعمل حسب قواعد جديدة. وأي متحدث، لا قيمة لحديثه إن لم يكتسب قيمته ومصداقيته من العلم. بل إن الزج بالعديد من النجوم، في سياق السجال السياسي، لتقديم تصورات وأفكار حول الوباء، لا قيمة موضوعية لها، وإن أثرت على سلوك الأفراد والجماعات بشكل مؤقت. وحدهم العلماء من يستطيع تحرير المجتمعات من السجالات السياسية والأيديولوجية حول الوباء، وتمكينها من هزيمة الفايروس باعتماد قواعد عمل تستند للمعرفة العلمية.
كرة القدم والمسرح وكورونا والعلماء / جمال الطاهات
9
المقالة السابقة