كان من المفترض أن يعلن نتنياهو في 1/7/2020 عن قرار ضم 30 % من أراضي فلسطين في الضفة الغربية إلى السيادة الإسرائيلية، لكي تضاف الى ما اغتصبته إسرائيل منذ العام 1948 وحتى اليوم، وبذا يصبح مجمل ما ستغتصبه الصهيونية 86 % من أراضي فلسطين التاريخية.
غير أن الخلافات الإسرائيلية الداخلية، وعدم موافقة جانتس صراحة، وهلامية الموقف الأميركي المخادع، وتخوف الجنرالات في إسرائيل من العواقب الأمنية والسياسية، وعدم قبول أوروبا والبلاد العربية بالمخطط الاحتلالي، وموقف الأردن القوي الرافض، إضافة إلى الصمود والتماسك الفلسطيني المقاوم بشدة، كل ذلك فرض على إسرائيل أن تتغاضى عن الإعلان عن خطة الضم في الموعد المحدد.
كان نتنياهو يريد أن يحمل الإعلان رسالتين: الأولى للإسرائيليين حول الإنجاز التاريخي الذي يحققه ليبقى الوحيد الذي أضاف مساحات كبيرة إلى ما تم اغتصابه العام 1948. والثانية: للأميركيين وخاصة الانجليكان المتصهينين ومؤداها المساهمة التاريخية لترامب وصهره اليهودي كوشنر بالتقدم نحو إسرائيل التوارتية التي يفترض أن تلتهم الجزء الأكبر من الشرق الأوسط. ولتعمل كل رسالة كقوة دافعة لاستمرار نتنياهو على كرسي الرئاسة، وكورقة انتخابية للرئيس ترامب باعتباره مساهما في صنع إسرائيل الكبرى بالاعتراف بالقدس، وضم الجولان و30 % من الضفة الغربية. ترامب الذي تراجعت شعبيته بسبب خلق توترات اقتصادية عالمية، والعنهجية والتخبط في إدارة الشؤون الأميركية قبيل الانتخابات.
من جانب آخر اعتبر بعض السياسيين الإسرائيليين فكرة إعلان الضم بصورة قانونية نوعا من التهور السياسي، ولا يضيف إلى إسرائيل سوى مزيد من العزلة والرفض، خاصة أن البديل واضح وبسيط في نظرهم، وهو ما كان قد أعلنه جابوتنسكي قبل 85 عاما وهو “الجدار الحديدي حول الفلسطينيين وعزلهم حتى الاستسلام، والضم التدريجي غير المعلن والتوسع في المستوطنات وقضم الأراضي الفلسطينية بهدوء”. وهذا المسار في رأي كثير من السياسيين والعسكريين في إسرائيل من شأنه أن يعيد الأمور الى ما كانت عليه، ويطفئ نار الاحتجاجات ضد قرار الضم، ويحافظ على العلاقات مع الأقطار العربية دون أن تتراجع. وبطبيعة الحال يتم تغطية كل ذلك بدبلوماسية المراوغة والخداع وادعاء الرغبة في السلام واستعمال مصطلحات هلامية لا تعني شيئاً وهو ما يتقنه نتنياهو.
وهذا يعني أن على الجانب الفلسطيني بشكل خاص والعربي عموما أن ينتبه الى “ما ستقوم به إسرائيل دون إعلان” للوصول الى نقطة جغرافية ديمغرافية محدودة الا وهي: “أن الفلسطينيين ما هم الا مجموعات سكانية مقيمة في إسرائيل، وليس لهم أرض يمكن ان يطلق عليها وطن”.
وعلى طريقها لتحقيق ذلك ستعمل الدوائر الإسرائيلية المدنية والعسكرية والقضائية على عدة محاور منها:
اولا: التوسع في مصادرة الأراضي الفلسطينية تحت مختلف الادعاءات، ابتداء من تحويلها الى مناطق عسكرية مرورا بالمنفعة العامة والطرق وانتهاء بتوسيع المستوطنات.
ثانيا: التشدد في منع الفلسطينيين من التوسع العمراني في أراضيهم، وخاصة انشاء مبان جديدة. وستعمل على الافراط بدون ضوابط في هدم وتدمير المباني والمنشآت الجديدة وخاصة في القرى والمدن الصغيرة بهدف التضييق والمحاصرة ودفع المواطنين الفلسطينيين إلى اليأس والاحباط حين يرون الجرافات تنقض على منازلهم أمام أعينهم.
ثالثا: تشجيع المستوطنين على مهاجمة الأراضي الزراعية الفلسطينية واقتلاع الاشجار أو تحطيمها وتخريب المزارع تمهيدا للاستيلاء عليها.
رابعا: سوف تتوسع في مصادرة ما تسميه أملاك الغائبين وستفرض ضرائب وغرامات باهظة على العقارات التي يملكها الفلسطينيون.
خامسا: العمل بهدوء على ضم القرى والمستوطنات الصغيرة المعزولة قليلة السكان، باعتبار ذلك لا يشكل حدثا يستحق الضجة والاحتجاج.
سادسا: استمرار التضييق على الفلسطينيين في المعابر واللجوء الى القتل والاعتقال للنساء والأطفال والشباب، واستمرار حصار قطاع غزة بهدف عزل القطاع كلية وجعل الحياة تحت رحمة المعابر الإسرائيلية.
سابعا: اقامة مواقع عسكرية او امنية أو مائية في الأراضي الفلسطينية المحاذية لنهر الأردن “الأغوار الفلسطينية” تمهيدا للتوسع الاستيطاني والعسكري.
ثامناً: استمرار الضغط على الشباب الفلسطيني واستباحة الأماكن المقدسة والمسيحية والاسلامية وخاصة الأقصى وفتحها أمام اليهود لدخولها في أي وقت دون اقتسام زماني ومكاني.
تاسعا: العمل مع الادارة الأميركية وحلفائها لانهاء الأونروا، والحاق اللاجئين الفلسطينيين بمنظمة الأمم المتحدة للاجئين.
وانطلاقا من الأفكار التي طرحها الخبير الاستراتيجي ماكس مانواوينج في محاضرته في مركز الدراسات الاستراتيجية في تل ابيب في 1/12/2018 ستعمل السلطات الإسرائيلية في آليات الجيل الرابع من الحروب، إذ ستوظف كل وسائلها وعملائها على ابقاء حالة الانقسام قائمة بل ومحتدمة بين الفصائل الفلسطينية، وبالتالي تشتيت الجسم النضالي للوصول الى نقطة استراتيجية وهي التآكل الذاتي للصمود والفصل الكلي بين الضفة والقطاع. ومن خلال استخدام الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي سوف تمعن إسرائيل في بث رسائل التفرقة والتنافس بين الفرقاء الفلسطينيين، وبين الدول والمجتمعات العربية حتى تخلق حالة من الكراهية الدائمة. وسوف تستمر في تقديم الدعم المالي واللوجستي للجماعات الإرهابية في أي بقعة في العالم العربي وخاصة سورية والعراق ومصر، وكذلك تغذية دعاة التطرف والتشدد والطائفية والمذهبية والانقسامات بأنواعها بطرق مباشرة وغير مباشرة وفي مقدمتها الدعم من خلال الاعلان في القنوات الفضائية. كل ذلك وسط مشاغلة متواصلة للجانب العربي والفلسطيني من خلال الاعلام ووسائط التواصل الاجتماعي، واقتراح المشاريع المشتركة، ومن خلال اقناع الحاكم العربي بأن الطريق الوحيد إلى قلب أميركا هو إسرائيل. وستعمل بالتنسيق أو التوافق أو التوافق المضاد على أن تبقى إيران مصدر تهديد للخليج والعراق عسكريا وسياسيا وسكانيا وفكريا، وان يتعزر موقف تركيا كقوة طامعة في المنطقة العربية بعد أن رفضتها أوروبا. وبذا تبقى المنطقة العربية ساحة مفتوحة للقوى الاجنبية مما يعطي إسرائيل الفرصة للاستمرار في برامجها دون تردد.
ومن هنا فإن التحدي أمام الفلسطينيين والدول العربية وخاصة المجاورة يتمثل في استيعاب مفردات برنامج الضم غير المعلن ومن ثم وضع برنامج للتصدي لهذه الخطة الاستعمارية الخبيثة . إن دعم الصمود الشعبي الفلسطيني وانهاء الانقسامات والتوجه نحو المحافل الدولية القانونبة والبرلمانية والاعلامية والثقافية والأكاديمية الدولية هي بوابات رئيسية لهذا التصدي. ان الجرائم الإسرائيلية وانتهاكاتها لحقوق الإنسان والقانون الدولي ونقضها للاتفاقيات تتطلب رفع قضايا ضدها في المحاكم الدولية المتخصصة. ان الرهان في المسألة بكاملها رهان على المستقبل والذي قد يحمل من الإنجازات للحقوق الفلسطينية ما لم تحمله سنوات الماضي، وبذا ينتهي آخر استعمار في العالم.
*وزير التربية والتعليم الأسبق