الكثير من الادلة، بعد ثلاثين سنة على مدريد، وآخرها صفقة القرن، وقرار الضم، تثبت أن (السلام وحده) ليس كافياً لاحتواء إسرائيل وأقلمتها، وليس وسيلة فعالة لتغيير سلوكها في المنطقة. إذ أن تفوقها الاستراتيجي، على أكثر من صعيد، (تعليم، بحث علمي، انتاج تقني متطور، ثراء ثقافي فكري ينعكس على مستوى وكفاءة النخب الحاكمة، إضافة لفاعلية وكفاءة المنظومة العسكرية والأمنية)، مثل فرصة ذهبية لانزياحها نحو اليمين الاستيطاني. فبعد أن مثل صعود اليمين، منذ منتصف السبعينيات، رد فعل على التهديد الذي تشكل في حرب عام 1973، جرى تحول نوعي لاحق في طبيعة اليمين الإسرائيلي، وأصبح يتطور ويحقق مكاسبه الانتخابية، محمولاً على غواية الفرصة التي تتمثل في تفوق إسرائيل، وضعف في الجانب العربي، يغري النخب الحاكمة، كما الناخبين في إسرائيل، لاستثمار فرصة هذا التفوق.
باري بوزن، وهو أحد أهم العقول الاستراتيجية المخضرمة، يعتمد استنتاج المؤرخ الأمريكي جيوفري بليني، في بحث أسبب الحروب (او العدوانية التي تفضي إلى الحرب)، بأنه التفاؤل. التفاؤل بالنصر، والتفاؤل بتحقيق مكاسب كبيرة بكلف قليلة، والتفاؤل بإمكانية حل مشكلات اقتصادية وسياسية داخلية على حساب جار ضعيف.
صعود النسخة الجديدة من اليمين الإسرائيلي (اليمين الذي يعد الناخب الإسرائيلي بتحقيق منجزات)، محمول على تفاؤل، مصدره التفوق، الذي يغري بإمكانية اخضاع الخصم واستسلامه. وتغني اليمين بالمنجزات الإسرائيلية، وبعجز العالم العربي، لم يعترضها إلا نبؤة كيسنجر قبل بضعة أعوام، بان موازين القوى لن تستمر في صالح إسرائيل لفترة طويلة.
جورج كينان، مصمم الحرب الباردة وفيلسوفها، حدد أهمية التعرف على مصادر سلوك الخصم. ولكن ذلك ليس بديلاً عن متطلب صياغة الإطار المرجعي للخيارات الاستراتيجية، وإنما خدمة له. فالخيارات الاستراتيجية تحدد، سنداً لمقارنة نقاط القوة والضعف، ولرسم «كل» خطوط الاشتباك بشكل واضح، وإعادة تخصيص الموارد في سياق تعديل موازين القوى. ولكن سؤال كينان حول «مصادر سلوك الخصم» متعلق بتحديد هدف الصراع، ورسم ملامح النصر. فكل ما يمكن تحقيقه من منجزات في جبهات الاشتباك، لا معنى لها، إذا لم تتكامل لتخدم هدف الصراع. وهدف الصراع، حسب كينان، هو تغيير طبيعة الخصم المنتجة لسلوكة. وهذا يستدعي تحديد مصادر سلوكه العدواني. او لنقل حسب مقاربة باري بوزن (كسر مسلسل التفاؤل) الذي يديم السلوك العدواني.
صحيح أن الخيارات العيانية للاشتباك، تتحدد استناداً لحقائق موضوعية، وليس تعبيراً عن رغبات متصلة بمبررات الصراع وأهدافه، ولا من التعريف التعبوي للنصر. وصحيح أن تحرير الخيارات من الرغبات هي الشرط الأول للنصر. ولكن حصاد سلسلة الاستباكات التي تشكل الصراع وتعطيه هويته التاريخية، سوف يتبعثر إذا لم تتكامل هذه الاشتباكات بهدف واضح ودقيق للصراع (يتلخص بتعريف معياري للنصر). فوحدة الهدف، وهي تغيير سلوك الخصم، هي ما سيحفظ تكامل الخيارات والإجراءات المنبثقة عنها لتحقيق النصر.
الهدف الموضوعي للصراع، وليس الهدف المشتق من مشاعرنا، أو من اطروحاتنا الايديولوجية، هو الرابط الذي يضمن تكامل السلسلة المتنوعة للخيارات الاستراتيجية. او لنقل تحرير الهدف من مشاعرنا، ومن حالتنا المعنوية شرط للنصر. إذ أن ضبابية أهداف الصراع، أو تغييبها عند اشتقاق الخيارات، يجعل كل الخيارات لها ذات القيمة، ويفقدنا بوصلة النصر. لويس كارول، مؤلف أليس في بلاد العجائب، قالها بوضوح: «إذا كنت لا تدري أين تريد أن تذهب، فلا تفاضل بين الطرق، فأي طريق جيدة».
التعريف الموضوعي للنصر شرط لتحقيقه. فهو ليس مقتصراً على منع إسرائيل من تحقيق بعض أهدافها، إنه تغيير لبعض خصائها المنتجة لسلوكها.