لا نتوقع مواجهة بين البلدين وأقصى ما قد يحدث تقديم بكين تنازلات اقتصادية وتجارية لإرضاء ترامب وإسكاته.
رأت الصين في مبدأ “محور الباسيفيك” اعتداءً غير مباشر على سيادتها الإقليمية ومحاولة للحد من نفوذها العالمي.
متوقعٌ أن يتفوق اقتصاد الصين على اقتصاد أميركا خلال أعوام قليلة وهذا أحد أسباب التوتر الحالي بين البلدين.
يدرك ترامب أن الاعتماد الأميركي المتزايد على الصين لا يحقق سوى مزيد من الصعود الصيني على حساب أميركا.
“محور الباسيفيك” يرتكز على تقوية شراكة تجارية واقتصادية واستراتيجية مع دول الباسيفيك المحيطة بالصين في محاولة لاحتواء الصعود الصيني.
لا تريد الصين مواجهة اقتصادية أو تجارية مع أميركا لأنها تدرك أنها قد تنزلق لمواجهة استراتيجية وحرصا على مصالحها الاقتصادية القوية مع أميركا.
* * *
على مدار الأسبوعين الأخيرين، ارتفعت حرارة العلاقة بين الولايات المتحدة والصين، إلى الدرجة التي هدّد فيها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بقطع كل العلاقات مع بكين، وذلك رداً على ما يعتبره مسؤوليتها عن انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد – 19) في أميركا والعالم. وهو ما دفع خبراء ومحللين كثيرين، داخل أميركا وخارجها، إلى القفز إلى تكهنات وخلاصات تدور حول احتمالات وقوع مواجهة بين البلدين الكبيرين.
وحقيقة الأمر، لم يبدأ توتر العلاقة بين واشنطن وبكين مع ظهور جائحة فيروس كورونا وانتشارها، أو بسببها، وإنما يعود إلى سنوات سابقة، فالتخوف الأميركي من صعود الصين، اقتصاديا وعسكريا وتكنولوجيا ليس وليد اليوم، وإنما بدأ التحذير منه قبل عقد على الأقل، وتحديداً منذ أواخر عهد الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش (2001 – 2009).
وقتها، تحدّث بعضهم عن ضرورة حدوث تحول استراتيجي في السياسة الخارجية الأميركية باتجاه منطقة المحيط الهادئ. وهو ما ترجمته إدارة الرئيس السابق، باراك أوباما، ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، بشكل عملي فيما عُرف وقتها بمبدأ “محور الباسيفيك”.
وكان يرتكز على تقوية الشراكة التجارية والاقتصادية والاستراتيجية مع دول الباسيفيك، خصوصا المحيطة بالصين، مثل اليابان والفيليبين وإندونيسيا وكذلك أستراليا، في محاولة لاحتواء الصعود الصيني، إلى الدرجة التي كان يُسمّى فيها أوباما بالرئيس “الباسيفكي”، نظراً لتوجهاته واهتمامه بالنفوذ الأميركي هناك.
لكن ما قرأته بكين في هذه التحرّكات الأميركية كان مغايراً، فقد رأته اعتداءً غير مباشر على سيادتها الإقليمية، ومحاولة للحد من نفوذها العالمي، اقتصادياً وتجارياً وعسكرياً.
لذا بدأت في تكثيف علاقاتها بحلفائها وشركائها الإقليميين مثل كوريا الشمالية وروسيا، فضلاً عن مدّ نفوذها الاقتصادي عالمياً في الشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا، وصولاً إلى أميركا اللاتينية.
وهو ما ساهم في ارتفاع حجم الاقتصاد الصيني بشكلٍ غير متوقع خلال العقد الماضي، إلى أن أصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الاقتصاد الأميركي. ومتوقعٌ أن يتفوق الاقتصاد الصيني على نظيره الأميركي خلال أعوام قليلة، ولعل هذا أحد أسباب التوتر الحالي بين البلدين.
على أن التوتر في هذه العلاقة قد ازداد بشكل ملحوظ منذ وصول ترامب إلى السلطة قبل أربعة أعوام، وهو ما سرّع بدخول البلدين في مواجهة تجارية غير مسبوقة، لم تهدأ إلا بتوقيع اتفاق تجاري مرحلي قبل أربعة شهور، تستورد الصين بمقتضاه ما قيمته مائتا مليار دولار من الواردات الأميركية، خصوصا من المنتجات الزراعية، على مدار العامين المقبلين.
ورغم الوصول إلى هذا الاتفاق الذي تم توقيعه في البيت الأبيض، منتصف شهر يناير/كانون الثاني الماضي، فقد استمر ترامب في تصعيد علاقته مع الصين خلال الشهرين الأخيرين، لعدة أسباب:
أولها محاولة تصدير فشله الذريع في التعاطي مع جائحة كورونا، والتي خلّفت حتى كتابة هذه السطور حوالي مليون ونصف المليون شخص من المصابين، وحوالي 88 ألف حالة وفاة في أميركا، في أكبر كارثة صحية وإنسانية في تاريخ الولايات المتحدة.
وتسببت الجائحة في خسائر اقتصادية فادحة للاقتصاد الأميركي نتج عنها فقدان نحو 35 مليون شخص وظائفهم خلال الشهرين الماضيين. لذلك بتحميله الصين المسؤولية عن انتشار هذا الفيروس، يحاول ترامب رفع اللوم عن إدارته وطريقة تعاطيها مع الفيروس.
وثانيها، استغلال جائحة كورونا من أجل الضغط على الصين، وابتزازها من أجل تقديم مزيد من التنازلات التجارية والاقتصادية لصالح أميركا، وبشكل قد يساعد في إبطاء نمو الاقتصاد الصيني.
وثالثها، محاولة إرضاء الناخب الأميركي، خصوصا من فئة المزارعين الذين من المفترض أن تستورد الصين ما قيمته 50 مليار دولار من منتجاتهم خلال العامين المقبلين، والضغط من أجل زيادة هذه القيمة، فهؤلاء المزارعون يمثلون كتلة تصويتية مهمة بالنسبة لترامب، وذلك في سعيه إلى الفوز بولاية رئاسية ثانية في الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
وأخيراً، محاولة تعطيل الصعود الاقتصادي للصين، من خلال تأليب العالم ضدها باتهامها بالمسؤولية عن فقدان مئات آلاف من الأرواح في العالم، بسبب جائحة كورونا.
ولأنه رجل أعمال، يدرك ترامب أن الاعتماد الأميركي المتزايد على الصين اقتصاديا وتجاريا لا يحقق سوى مزيد من الصعود الصيني على حساب الولايات المتحدة. ولذا فإن خطته منذ جاء إلى السلطة تقوم على فك الارتباط التدريجي بين الاقتصادين، بحيث يتم تقليل هذا الاعتماد بما يصب في تحقيق مصالح بلاده.
وقد بدأ ذلك بالفعل من خلال تشجيع الشركات الأميركية التي تستثمر ما يقرب من 14 مليار دولار في الصين على الخروج من هناك، وتوجيه استثماراتها إما داخل الولايات المتحدة أو في بلدان أخرى كالفيليبين وفيتنام.
كذلك بدأت وكالات فيدرالية في سحب استثمارات صناديق المعاشات الأميركية من السوق الصينية خلال الأسابيع الأخيرة، وربما تلحقها جهات أخرى مستقبلاً.
قطعاً، لا تريد الصين دخول مواجهة اقتصادية أو تجارية مع الولايات المتحدة، ليس فقط لأنها تدرك أن أية مواجهة من هذا النوع قد تنزلق إلى مواجهة استراتيجية، وربما عسكرية، ولكن أيضا لحرصها على مصالحها الاقتصادية القوية مع أميركا.
فالسوق الأميركية هي أكبر سوق للمنتجات الصينية بقيمة تصل إلى حوالي نصف تريليون دولار، وتستحوذ على ما نسبته 17% من تجارة الصين الخارجية.
لذلك من الصعب توقع حدوث مواجهة بين البلدين، وأقصى ما قد يحدث تقديم بكين بعض التنازلات الاقتصادية والتجارية، من أجل إرضاء ترامب وإسكاته، وبما قد يضمن فوزه بولاية رئاسية ثانية.
* د. خليل العناني أستاذ العلوم السياسية بمعهد الدوحة للدراسات العليا.