إن توجه الحكومة نحو إلغاء ودمج عدد من المؤسسات والهيئات والسلطات المستقلة أمر جيد، وإن طال انتظاره منذ سنوات، تكبّد خلالها الاقتصاد الوطني مئات الملايين من الدنانير. لكن المسألة لا تستدعي الذهاب إلى أسهل الحلول، وبالتالي الانقضاض على المؤسسات الخطأ، فتُلغى مؤسسات يجب أن تستمر، وتبقى مؤسسات يجب أن تنتهي. ولعل الإشكالات الرئيسية التي وقعت فيها الحكومات المتعاقبة إزاء تشكيل الهيئات والمؤسسات المستقلة على مدى العشرين سنة الماضية تتمثل في الآتي:
أولاً: الامتيازات المفرطة غير المبررة التي أعطيت للمسؤولين في تلك الهيئات سواء من حيث الرواتب أو البدلات أو المكافآت أو العضويات، فوصلت مقبوضات بعض رؤساء الهيئات من رواتب ومكافآت معلنة وغير معلنة إلى (30) ألف دينار شهريا، وهو أكثر مما تتقاضاه رئيسة وزراء بريطانيا والتي لا يزيد راتبها على (15) ألف دينار شهريا.
ثانياً: غياب معايير الأداء، وعدم اكتراث الحكومات بالكفاءة أو الإنجاز لتلك المؤسسات، والذي لم يختلف في معظم الأحيان عن أداء أي وزارة، إن لم يكن أقل، ولم يقدم شيئاً جديداً للمواطن.
ثالثاً: النفقات التشغيلية الباهظة لتلك الهيئات ابتداء من المباني والسيارات، ومروراً بالمستهلكات والسفريات، وانتهاء بالمشاريع غير المنتجة والرواتب المرتفعة. أما ما هو العائد الإضافي (وليس العادي الطبيعي) من كل ذلك فلم يكن هناك أي سؤال.
رابعاً: المسمّيات الوهمية التي تستعمل ستاراً للامتيازات والصلاحيات والتوسع في اختلاق الدرجات العالية، من مثل “مفوض” أو “منتدب” أو “مستشار” (مع الاحترام) الذي لا يختلف عن عضو مجلس الإدارة إلا بالرواتب والامتيازات المبالغ فيها. ولكن استعمال المسميات جعل الهيئة تضم رئيساً برتبة وزير وخمسة مفوضين برتبة أمين عام، بينما هناك وزارة تضم آلاف الموظفين ليس فيها سوى وزير واحد وأمين عام واحد، أو اثنين على الأكثر.
خامساً: إن الجزء الأكبر من هذه الهيئات أخفقت في تكوين واستقطاب خبراء حقيقيين متميزين يمكن الرجوع إليهم على المستوى الوطني. وبدلاً من ذلك يجري الاعتماد على المستشارين والشركات الأجنبية أو شراء الخدمات بكل ما يعني ذلك من نفقات باهظة وإضاعة وإحباط للكفاءات الوطنية.
سادساً: إن القرارات الحكومية لم تميز بين الهيئات والسلطات التي ينبغي استمرارها باعتبارها مرجعاً علمياً ومهنياً عالي القيمة مثل سلطة المصادر الطبيعية، التي تم حلها وتشتيت منجزاتها في كل اتجاه، وبين هيئات لا لزوم لها مثل هيئة تنظيم قطاع كذا وتنظيم كذا وشركة كذا الحكومية، وغير ذلك. مع كامل الاحترام للأشخاص ذوي العلاقة.
سابعاً: الفهم السطحي لموضوع الخصخصة وترشيق الإدارة وتقليص المركزية. فالخصخصة في جوهرها أن ينتقل “الإنتاج” و “ليس التنظيم و الإدارة” إلى القطاع الخاص الوطني بالدرجة الأولى، وليس “فكفكة” جهاز الدولة، ونقل موجوداتها بل وثرواتها ومرافقها العامة إلى المالك الأجنبي، وتسرب عائدات الخصخصة في دروب غامضة.
ثامناً: ضياع المرجعية وغياب انسجام البرامج. فبعض الهيئات ترتبط بالوزير وبعضها في نفس القطاع برئيس الوزراء، وبعضها يسمى الهيئة، وبعضها يسمى شركة عامة أو خاصة تملكها الحكومة، ولا أحد يعرف من المسؤول عن صنع القرار وتبعاته. هل هو المدير العام ورئيس الهيئة؟ أو مجلس الإدارة؟ أو الوزير؟ أو رئيس الوزراء أو مجلس الوزراء؟ وهل قرار والتزام الهيئة أو الشركة الحكومية هو قرار حكومة أم قرار قطاع خاص؟ كل هذا والوطن والمواطن يتحملان كافة الأخطاء المالية والإدارية والسياسية التي تترتب على هذه الفوضى، كما هو الحال في اتفاقية الغاز مع الكيان الصهيوني.
اليوم والحكومة مقبلة على التغيير والترشيد من خلال سلسلة من الإجراءات لا بد من دراسة الموضوع بعمق من منظور رباعي أي التخصص والأداء والتكاليف والمساواة مع النظراء. وهنا لا بد من التمييز بين الهيئات والمؤسسات التي تقدم شيئاً إضافياً وبين الهيئات غير المنتجة. هناك مؤسسات حققت نجاحات كبيرة وأصبحت إضافة نوعية للعلم أو المعرفة أو الأداء أو ثقة المواطن من مثل دائرة الأرصاد الجوية التي تنوي الحكومة ارتكاب خطأ جديد من خلال دمجها في وزارة النقل دون مراعاة إن المعلومات والبيانات التي تتعامل مع دائرة الأرصاد قد أصبحت ركناً أساسياً في تفهم التغييرات المناخية والتي سيتأثر بها الأردن بشكل كبير جداً. إضافة إلى أن دائرة الأرصاد لم تشكل عبئاً مالياً على الدولة ولم تخلق لنفسها ألقاباً وامتيازات لا مبرر لها.
وقبل الاسترسال في قرارات سهلة أو متسّرعة لا بد من الإشارة إلى الأولويات التالية:
أولا: التخصص، هناك أعمال ذات طابع تخصصي كامل مثل البنك المركزي أو هيئة الأوراق المالية أو الأرصاد الجوية أو المصادر الطبيعية السابقة وغيرها. ومثل هذه المؤسسات ينبغي المحافظة عليها مستقلة، وفي نفس الوقت إخضاعها للمساءلة الأدائية والإدارية والمالية. أما حين يكون مجال عمل الهيئة المستقلة جزءا من أو متطابقا مع عمل وزارة أو هيئة مشابهة مثل النقل والطاقة والاستثمار والاتصالات والسكة الحديد وغيرها فلا بد من الدمج مع إعادة التنظيم ورفع مستوى الأداء.
ثانياً: الأداء، إن العديد من الهيئات المستقلة كان أداؤها عادياً لم يضف الى القطاع المعني شيئا. يعود ذلك إلى تشتت المرجعية من جهة وعدم وجود معايير للأداء من جهة ثانية، إضافة إلى غياب برامج تقرها الحكومة لتحقيق أهداف محددة يراد الوصول إليها وغياب المساءلة عن الأداء. واليوم لا يوجد أداء اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي أو قانوني أو علمي إلاّ وله مؤشرات وأدلة رقمية دولية، يقاس بها الإنجاز على مستوى دولي وبأرقام منشورة عن الأردن وغيره من الدول. فما هي أرقام المؤشرات التي وصلت إليها الهيئات والمؤسسات المستقلة في القضاء والبطالة والنمو الاقتصادي، والفساد والديمقراطية والنقل… إلخ. مثلاً، يحتل الأردن المكانة السابعة في العالم من حيث عدم انتظام النقل ويحتل المرتبة (84) بين الدول على دليل اللوجستيك العالمي. بينما في إنشاء المشاريع يحتل الأردن المكانة (104) في سهولة إنشاء المشاريع والمكانة (71) في جاذبية الاستثمار. أليست الهيئات ذات العلاقة هي المسؤولة عن هذه المواقع المتأخرة؟
ثالثا: الكلفة، إن القاعدة الأساسية في قبول وتحمل كلفة أي عمل أو نشاط أو مؤسسة هي أن يكون العائد على الاقتصاد الوطني أو الصحة العامة أو رأس المال البشري أو السلم المجتمعي أعلى من الكلفة. أما إذا اختلت هذه المعادلة فإن الافتراضات خاطئة. وإذا طبقنا هذه المعادلة على الهيئات المستقلة نجد أن القيمة المضافة في جزء كبير منها لا يكاد يذكر بل سلبي في كثير من الأحيان.
رابعا: المساواة مع النظراء، لعل واحدة من الإشكالات المالية والإدارية الكبيرة التي خلفتها سياسات الحكومات المتعاقبة إزاء الدوائر المستقلة هي فروق الرواتب بكل تبعاتها المالية والإدارية والنفسية. وهذا يتطلب قبل كل شيء وقبل الدمج والإلغاء، لا بد أن يصدر تشريع بحيث يحكم موظفي الدولة سلماً واحداً للرواتب لا يختلف إلاّ حسب الاختلاف في المهام والمسؤوليات والنتائج المحددة مسبقاً كأهداف. مثل هذا الأمر يجب أن يحتل الأولوية الأولى في التنفيذ رغم إشكاليات الحقوق المكتسبة التي صرحت الحكومة عنها. إن التمايز في الرواتب والامتيازات هو الذي شجع الكثيرين على الانضمام إلى الهيئات المستقلة أو المطالبة بإنشائها، وهمّش أعمال عدد من الوزارات. إن “الحقوق المكتسبة” للموظفين والعاملين في هذه الهيئات ستكون العقبة الأكبر تجاه دمجها مع الوزارات أو إلغائها. إن تعويض هؤلاء الموظفين اليوم من خلال “صندوق استثماري خاص وطويل الأمد” والانتهاء من عملية الدمج، هو أقل تكلفة على المدى البعيد من إبقاء مؤسسات لا لزوم لها وتحمل أعباء مالية وإدارية لا مبرر لها تثقل كاهل المواطن والاقتصاد الوطني.
وفي النهاية فإن المستقبل، وفي ظل الثورة الصناعية الرابعة، لا يتجاوب إلاّ مع الإدارة الرشيقة المرنة الواضحة الأهداف والمقاييس والمؤشرات سنة بسنة ومرحلة بمرحلة.
*وزير التربية والتعليم الأسبق