عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب
قد يكون صوت البوارج الحربية التي تمخر “مضيق هرمز” واختراق الطائرات حاجز الصوت، ووميض القنابل التي تضييء مساحات مئات الأميال هي المسيطر الآن على هذا الطريق الملاحي الدولي الهام، الذي تقف قبالته عُمان منذ فجر تكوينها الحضاري، وقد صمدت وقاتلت وصالحت وأبرمت اتفاقيات.. وظلت تولى وجهها للبحر لأنه كان باعث التحدي و باعث الأمن والرزق..
عُمان اليوم تدرك أن ما يحميها هو دورها السياسي والدبلوماسي الذكي والنشط في العالم، وقدرتها على قراءة الجملة العالمية المعقدة ببصيرة ووعي، وسعيها المستمر لخدمة الأهداف التي آمنت بها عبر تاريخها العريق، وخاصة في عصر النهضة ومنذ جاء حكيمها الى السلطة قبل خمسين عاما.. فقد ظلت تدرك أن قوتها في حكمتها وقدرتها على استعمال بصيرتها، وتوظيف دبلوماسيتها لتبقى قادرة على الحركة والتبشير بالرسالة التي آمنت بها، وهي رسالة السلام..
صوت عُمان الآن يرتفع من على منبر الأمم المتحدة ، ليبدد اللامبالاة الدولية والكسل العالمي أمام تهديدات لابد من لجمها، ورفع الصوت في وجهها، ليكون العالم شاهدا على المخاطر والتداعيات..
عُمان استطاعت.. نعم استطاعت وهي ليست دولة عظمى أو كبرى في تصنيفات الدول المعاصرة و لكنها كبيرة بما تؤمن به من قيم ..
يعتلي بن علوي منبر الأمم المتحدة ويقول: “حان الوقت لإطفاء الحرائق المشتعلة في المنطقة”.. منبها العالم أن هذه وظيفة الأمم المتحدة، “العمل على صيانة الأمن والسلم الدوليين و مواجهة التحديات والصراعات الدولية والعمل الحثيث على تسوية النزاعات باستخدام الدبلوماسية الوقائية وحل الخلافات بالوسائل الدبلوماسية”.
هذا ما تفعله عُمان كانت ومازالت.. وهي لا تأمر المجتمع الدولي بالسلام وتنسى نفسها، بل هي تبادر بالعمل، وتذكر المجتمع الدولي..
عُمان لا تنطلق في ذلك من ترف الوقت أو اتساع الفرص، بل من أوقات صعبة لا تريد العالم وخاصة الإقليم والشرق الاوسط ان يعاني منها أكثر فوق معاناته مما حدث له وفيه..
عُمان لا تقول كلمتها وتمشي بل تقول وتشير وتنصح وتتحرك وتسعى، اليست هي التي وفرت اتصالات أمريكية إيرانية علي ارضها زمن الرئيس اوباما و نجحت في تقريب الرأسين الأمريكي والإيراني، وبرّدت ماكينة الانفعال لتساهم في انجاز المولود (5+1) الذي احتفى به العالم، ورأى فيه فرصة، قبل أن يُلقى ترامب باندفاعه الطلاق عليه ويبقيه معلقا!!
عُمان مازالت تذكر بضرورة السلام في المنطقة والإقليم، ومازالت تدعو وتلتزم الحياد لتنجح، فهي لا تنحاز الى الولايات المتحدة ولا إلى إيران، بل سعت وتتطلع مجددا للسعي.. لأن هذا الدور يخدمها ويخدم مصالحها، فهي لا تريده للإعلام أو الشهرة أو المباهاة، بل تراه ضروريا لمستقبلها وأمنها الوطني..
عُمان تتحدث دائما بتواضع .. فهي لا تفضل الاضاءة القوية التي تتلاشى بسرعة، ويأتي موقفها فيما يجسده وزيرها بن علوي حين يقول: “بلادي تؤمن بالحوار والمفاوضات وهما أنجع الوسائل لحل الخلافات”، و هذه المقولة ليست للاستهلاك أو لما تكرره دول كثيرة تدعي ذلك، وإنما هذا التعبير يقوم من تجربة وممارسة وحرص، جعل العالم يلتفت إلى الدور العُماني، ويثق به ويطالب بالاستفادة منه، حين يظل هذا الدور شفافا ويحتفظ بنفس المسافة من الأطراف المتخاصمة، التي تجد فيه أي (في الدور العُماني) مصلحة لها..
التوتر ليس في الخليج الذي ظلت عُمان تسعى لإبعاده عنه، سواء من داخل المجلس وبصوت مستقل، أو من خارجه بمبادرات نجحت وأقنعت ،وإنما أيضا في منطقه الشرق الأوسط والمقصود الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي الذي مضت عليه عقود وما زال يتداعى ويتفاقم ويهدد.. وعُمان أمام هذا الصراع لم تقف مكتوفة الارادة، ولم تضع رأسها في الرمل، بل بادرت لاستقبال الاطراف المتصارعة الإسرائيلي والفلسطيني، وتحملت في سبيل ذلك اللّوم والنقد، ولكنها ظلت ترى أن ثمن ذلك أقل من الكسب الذي يمكن ان تحققه في نجاح مساعيها لإحداث سلام يعطي الفلسطينيين حق تقرير مصيرهم في دولة مستقلة آمنت بها عُمان وما زالت تؤمن، وترى فيها طريق للخلاص من الاحتلال الذي طالبت دائما بإزالته.. فالحرائق التي يمثلها الإحتلال و يفتعلها في بقائه يجب ان تطفأ بإرادة دولية ليعود السلام للمنطقة .. وتختفي منها مظاهر العنف والإرهاب والنزوح والهجرة، وكلها ظواهر ناتجة عن الاحتلال والظلم وحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة.
كانت الدبلوماسية العُمانية دائما متوازنة وواضحة وعملية وعميقة الدلالة، وقد رأينا ذلك في مخاطبة الوزير بن علوي في كل المؤتمرات التي تتحدث فيها عُمان، في مجلس الجامعة العربية وأمام وزراء الخارجية حين تحدث عن القدس وطالب بخطوات عملية ، وحين تحدث في انعقاد مجلس التعاون الخليجي بصوت مميز يدعو للتسامي واحترام الآخر والارتقاء فوق الخلافات، لم تكن عُمان إمّعة،ولم تكن من جماعة (غزية) ان غزت، بل كانت لها صوتا مميزاً في الحرب على سوريا، وفي الموقف من العدوان على العراق، و في الحرب العراقية الايرانية، و في غزو الكويت ، وفي مقاطعة مصر إثر كامب ديفيد، وكانت مع الحق مع فلسطين وكان وزيرها المسؤول عن الشؤون الخارجية هو الوزير العربي الوحيد الذي زار القدس، وجاء البيوت من أبوابها ودعا لمفاوضات حقيقية وسلام مثمر بعيداً عن الهيمنة.
كانت عُمان عملية في مواقفها تعاين المواقف وتخرج بالتشخيص وتبادر وتقول على لسان وزيرها “ليس من سمع كمن رآى”.
حين زار القدس ورأى بشاعة الاحتلال ورغم اشتعال الحرائق في اليمن ووصول شرارها الى حدود عُمان ورغم ما يعيشه العمانيون من ألم على ابناء جلدتهم وجيرانهم, حيث لا يميزون بين يمني ويمني, إلا ان ألم الخاصرة العمانية الناتج عن الصراع في الجوار ما زال يجري التعامل معه بحكمة.. وشعار عُمان “اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون أو لا يعقلون”, ولأنها تسعى بالسلام فان دعاة الحرب لا يتركونها تنجز المهمة النبيلة, بل يدبرون لها الاتهامات, ويرسمون لها المكائد, ويدعون ما لا يقبله منطق… ورغم الحرائق المجاورة والانقسام اليمني الصعب, فإن عُمان لم تغلق أبوابها في وجه اليمنيين وقد احتفظت بنفس المسافة منهم ورأت استمرار مساعدتهم وإسنادهم الانساني الى أن ينبلج فجر اليمن ويزول عنه ليل العدوان والعنف والصراعات… ومازالت عُمان تدعو الى حل الصراع اليمني بالوسائل السلمية وتقديم المبادرات الدولية وتعظيمها لتغليب المصلحة اليمنية العليا بعيدا عن الاقتسام..
عُمان فتحت حدودها للملهوفين وذوي الحاجة ومن مستهم بشاعة الحرب للعلاج واستقبلت قادة من الفريقين واشترطت عليهم حين يصلون ترابها ان يضعوا السلاح وان يدخلوا الاشهر الحرم التي تمتد على مدار السنه فوق الارض العُمانية..
عمان لا تكل ولا تمل وتبقى تحاول وهي تندر دبلوماسيتها للسلام وهذا ما يؤكده بن علوي بقوله: “أننا في سلطنة عُمان ومن منطلق مواقفنا الثابتة لدعم السلام والاستقرار في المنطقة على استعداد للتعاون مع الاطراف الدولية مما يمكن من عودة المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي على اساس حل الدولتين” قالت عمان ذلك ومارسته حين بادرت لتحفيز الطرفين للاقتراب الى لحظة الحقيقة.
والشراكة العمانية مع المجتمع الدولي في كل النواحي الاقتصادية والأمنية والسلمية عامه مسألة تمارسها عُمان وتتقدم صفوفها فهي منتشرة في كل المنتديات والمداولات والحوارات على مستوى الاقليم والعالم, حافظها الدعوة لمزيد من التنمية المستدامة وجلب الاستثمارات وتعزيز التجارة وخدمة خطط عُمان التنموية وبرامجها المتوسطة وبعيدة المدى, خاصة وهي تودع خطتها(2016-2020) بنجاح ودروس مستخلصة لمعرفة اين اصابت وأين اخفقت حتى تنتقل بوعي وسلاسة لخدمة الرؤية السلطانية (رؤية عُمان 2040).
نعم عُمان تواصل نشر ثقافة السلام وهذا نابع مما تؤمن به ومن تصالحها مع نفسها… ولذا اخذت عُمان دورها اخيراً وقبل ايام حين صنفت انها الاولى في الخلو من الارهاب وهو ما كنت اتمنى ان يلتفت له المجتمع الدولي وان يميز صوت عُمان ذات الرصيد عن الاصوات التي تدعي محاربة الارهاب وهي تعمل على تخصيبه والاستثمار فيه…