راجت خلال الأيام القليلة الماضية حوارات ونقاشات حول نتائج الطلبة في الثانوية العامة. هذا شيء مطلوب، لأن امتحان شهادة الثانوية العامة يعد واحداً من أبرز التحديات الوطنية، الذي يستدعي وقفة مراجعة وتأمل من جميع مكونات المجتمع؛ وذلك للوصول إلى تصور عام وآليات حديثة ومعاصرة تضبط جودة المخرجات المطلوبة للتعليم العام.
و هنا أزعم أن ما تم النقاش حوله والتجاذب بشأنه، لا يتعدى حالة الصراع الإيجابي ما بين مدرستين تربويتين، تنحاز كل منهما إلى فكرها وتطبيقاتها تجاه العملية التعليمية التعلّمية التي تسعى إلى بناء إنسان المستقبل. فالأولى-التقليدية، تهتم بالعمليات المتمركزة حول المعرفة «المادة الدراسية» والمحتوى وقياس مدى حفظ المتعلم لتلك المعارف والمعلومات بصرف النظر عن الجوانب الأخرى. والمدرسة التربوية الثانية الحديثة، ترى أن العمليات التعليمية تتمركز حول المتعلم وجوانب نموه النفسي والإجتماعي والتكامل في شخصيته ككل. وتصل في المفهوم الواسع والمعاصر للمناهج إلى التعليم المتمركز حول المجتمع بكل قضاياه ومشكلاته وطموحاته، مع عدم إهمالها للجانب المعرفي؛ وهنا كانت نقطة الإختلاف على النتائج الأخيرة لطلابنا.
فمن أنكر على طلابنا حصولهم على هذه العلامات، كان يأمل أن تكون الإختبارات نوعاً من التحدي والتعقيد، الذي يشعر المتعلم أنه عاجز عن الوصول إلى الإجابة-الحل النموذجي للأسئلة التي قُدِمَت له؛ لأن من قام ببناء الإختبارات يكون قد أعطى وزنا كبيراً لأعلى مستوى من مستويات التفكير العليا، مع تغليفها بنوع من الغموض والإلتفاف، للوصول إلى الإجابة «قد يكون لغاية في النفس».
و من ابتهج وفرح بمنجزات أبنائنا الطلبة وبنتائجهم المتميزة، يكون قد شكر من قام ببناء الإختبارات وما رافقها من عمليات تصحيح، لإيمانه أن الإختبار المعقد والغامض لا يقيس قدرات طلابنا، وأن الإختبار ذاته، ليس وحده الذي يقيس قدرات أبنائنا الطلبة، فكان البناء يتناول جميع مستويات التفكير وبأسلوب سلس وواضح، دون تعقيد أو غموض يحمل التحدي؛ فالهدف هو قياس القدرة على الوصول إلى المعلومة والمعرفة، وليس قياس المعرفة بذاتها، التي سرعان ما تزول بزوال الظرف، وكذلك قياس المهارات.
ودليل ذلك، اللغط الذي رافق حصول الطالب الأول على العلامة الكاملة في التعبير باللغتين العربية والإنجليزية؛ فالتعبير مهارة جديرة بالتقدير ونادراً ما يهتم بها المتعلم بشكل متقن، هذا خلاف باقي المهارات في المباحث الأخرى، وعلى ذلك قس.
من وجهة نظري، أن هذه النتائج تعكس تطوراً مذهلاً في عقلية المخططين والقائمين على منظومة التربية والتعليم، فليس الغاية التعقيد والإنغلاق وايصال جيل من الشباب الى الشعور بالفشل وعدم الثقة بالنفس، الأمر الذي جعلهم لقمة سائغة للتنظيمات التكفيرية والمتشددين، يتخطفونهم لتنفيذ أجنداتهم الخبيثة، التي للأسف انجر لها عدد من الطلاب اليائسين -المحبطين بسبب انسداد الأفق عبر قناة الثانوية العامة، نتيجة التشدد غير المقبول.
الصواب هو أن نزرع الثقة في نفوس هذه القوافل الصاعدة إلى منصات الحياة، وأن نشحنها بطاقة إيجابية كبيرة، تعيد بناء نظرتها الصحيحة للحياة والوجود، من خلال تسريب الشعور لديهم بأنهم يقومون بدور حيوي في مجتمعاتهم، وأنهم قادرون على استثمار طاقاتهم وتحويل التحديات إلى فرص ترفدهم بكل ما مفيد ونافع لهم ولوطنهم وأمتهم.
تطور مذهل في عقلية مخططي التربية والتعليم /محمد موسى المرقطن
10
المقالة السابقة