مازالت أضواء النجوم التي أطفأت منذ عصور تصل الينا حتى الان. *جبران خليل جبران.
إن منظمة التحرير الفلسطينية هي الناظم لكل أطياف وفئات الشعب الفلسطيني، هي المظلة التي يتفيأ بها كل فلسطيني، وهي الوطن إلى أن يعود الوطن وعليه فعلى قيادتها أن لا تفرق بين فلسطيني وأخر ولا بين حزب أو تنظيم وآخر، وهذا ما قاله مؤسس م.ت.ف أحمد الشقيري.”م .ت.ف لا تفرق بين فلسطيني وآخر ولا بين فئة وأخرى، فالشعب كله المنظمة ،والمنظمة هي الشعب،هذه نظرة المنظمة إلى أبنائها.
بالرغم من التعتيم الذي جرى لشخصية أحمد الشقيري، وعلى دوره في وضع اللبنة الأولى لهذه المنظمة، نجد أننا كلما طالبنا بإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وتجديد ما أصابها من تكلس وجمود، وبث الروح والحياة في جسمها الذي أثخنته الجراح والأمراض،حينها تعود شخصية الرجل للأنبعاث من جديد ،ويبرز دوره وجهوده التي بذلها في التأسيس، إن من أبرز إنجازات حركة التحرر الفلسطيني ،هي تشكيل م.ت.ف،ومن الجدير بالذكر إن استرجاع ما عانته حركة التحرر الوطني العربية ما بين الحربين العالمتين الأولى والثانية ،وتبلور الوعي القومي في المشرق كان يعود لمظالم الترك وإصدار الأحكام العسكرية بحق الوطنيين في سوريا ولبنان وفلسطين .
أنذاك كان أحمد الشقيري في الثامنة من عمره، وقد عانى الشقيري في طفولته جبروت زوجة الأب وعسفها،وترك هذا آثارا وندوبا في نفسه لم تندمل إلى أخر عمره ،رغم هذه المعاناة فقد كان أحمد الشقيري ابن بيئته،حيث نشأ في بيئة سياسية ومثقفة فوالده زعيما سياسيا ومفتي عكا ،مما كان له أبلغ الأثر في شخصيته وتكوينه.
درس أحمد الشقيري في مدرسة صهيون،ولتفوقه أرسل إلى الجامعة الأمريكية في بيروت التي لم يستمر فيها طويلا ،حيث أبعدته السلطات الفرنسية نظرا لنشاطه السياسي، وعاد إلى فلسطين ليكمل دراسته في معهد المحاماة في القدس، تخرج محاميا وتتلمذ على يد ،عوني عبد الهادي من كبار المحامين أنذاك.
لقد تفولذ وعي أحمد الشقيري وتفتحت شخصيته على احتدام الصراع العربي الفلسطيني ضد المشروع الصهيوني في فلسطين وتواطؤ بريطانيا حكومة الانتداب مع أهداف الحركة الصهيونية وتهياة الأسباب للاستيلاء على فلسطين ،وكان للشقيري دوره في تشكيل الهيئة العربية العليا بعد إضراب يافا كان يترأسها الحاج أمين الحسيني،كما تعرض الشقيري،لأشكال من المعاناة والقهر على يد حكومة الانتداب البريطاني من خلال اعتقاله سنة 1936وانتهت بفرض الإقامة الجبرية في إحدى القرى المتاخمة للحدود السورية،وكان لهذا أبلغ الأثر في ترسيخ فكرة الإيمان بالقومية العربية لديه ،عند رؤيته لمئات المتطوعين العرب يأتون إلى فلسطين بعدها هرب إلى دمشق ومنها إلى بيروت ليكون قريبا من قيادة الحركة الوطنية وزعيمها الحاج أمين الحسيني الا أنه كان لديه ملاحظات على قيادة الحاج امين لذا كان يقول: الشعب الفلسطيني يسبق قيادته،اعتقد انها مقولة صحيحة غالبا ،برغم أن الشعب الفلسطيني يمتلك كما من المثقفين والمفكرين الوطنيين الا أننا نلحظ أحيانا تباينا في المواقف بين الشعب وقيادته في اتخاذ المواقف الحاسمة في مراحل عديدة من النضال الفلسطيني.
في عام 1940عاد أحمد الشقيري إلى فلسطين بعد أن أتيحت له الفرصة للعودة، ورغم انشغاله بالمحاماة بعد عودته الا أن قضية الارض والاستيلاء عليها من قبل الصهاينة كانت شغله الشاغل .
في سنة 1948عند وقوع النكبة ،غادر إلى إلى دمشق وهناك كان أحمد الشقيري أحد أعضاء الوفد السوري الذي فاوض لجنة التوفيق الدولية التي شكلت من ثلاث دول أعضاء في الأمم المتحدة وهي أمريكا وفرنسا وتركيا وسكرتير اللجنة د.اسكراتي ،لتتابع أعمال ومهام الوسيط الدولي الراحل الكونت برنادوت، وذلك لوضع حلول سياسية للصراع العربي الصهيوني بالتوفيق بين وجهات النظر.
عين أحمد الشقيري سنة 1951امينا عاما مساعدا لجامعة الدول العربية ويقول “ظل الخط البياني للوحدة العربية ضعيفا وذلك للتدخل الأجنبي” إن كون أحمد الشقيري امينا عاما مساعدا للجامعة العربية في ذلك الوقت لم يمنعه من القول بأن فكرة العروبة وتمثيل مصالح الشعوب العربية لم تكن قائمة كما يجب وأدرك أنها صيغة توفيقية غير حقيقية لمصالح الحكومات، في فترة لاحقة مثل سوريا في الأمم الا أن القضية الفلسطينية كانت في صلب اهتماماته،وقد رد عل جولدا مائيير في إحدى جلسات الأمم المتحدة عندما أنكرت وجود الشعب الفلسطيني، وتساءلت قائلة أين هو الشعب الفلسطيني؟؟رد عليها مخاطبا أعضاء الجمعية العامة قائلا:هذه المرأة جاءت من روسيا وتزوجت في أمريكا وعاشت في بولونيا وتأتي لتتساءل أين هو الشعب الفلسطيني؟
شغلت قضايا الأمة العربية حيزا كبيرا من اهتمامات أحمد الشقيري فبرغم من كونه مندوبا للسعودية في الأمم المتحدة ،فقد كان يلحق أعضاء من أقطار عربية من الجزائر والمغرب ،كانت ترزح تحت الإحتلال الفرنسي بالوفد السعودي ليتمكنوا من طرح قضاياهم.
من ناحية القدرات الذاتية لأحمد الشقيري فقد تميز خطيبا مفوها مقنعا صادقا أمنيا لمبادئه لا يحيد عنها ومن ذلك رفضه تقديم شكوى ضد الجمهورية العربية المتحدة بما يتعلق بحرب اليمن التي كانت مشتعلة أنذاك ،واعتبر المشكلة شأنا عربيا داخليا يناقش في أروقة جامعة الدول العربية وعليه أنهت السعودية تكليفه كمندوب لها في الأمم المتحدة .
عاد إلى بكيفون إلى أن جرى إقناعه بأن يكون مندوبا لفلسطين داخل جامعة الدول العربية خلفا لأحمد حلمي باشا الذي توفي في صيف ذلك العام من قبل عبد الناصر من خلال سفير مصر في لبنان.
كلف أحمد الشقيري في مؤتمر القمة الأول سنة 1964في الإسكندرية من قبل الدول العربية بوضع خطة عمل أو مشروع خطة لتشكيل م.ت.ف
كانت مهمته شاقة نظرا للتواجد الفلسطيني المتناثر والمتباعد فكان عليه أن يذهب إلى سوريا وغزة والأردن والعراق ،كانت دول عربية تأذن له بالدخول ودول أخرى تمنعه،بعد عقد المؤتمر الأول لمنظمة التحرير الفلسطينية في القدس سنة 1964وانتخب أحمد الشقيري رئيسا للمنظمة ،بلغ الشقيري القمة العربية بإنجاز مهمة تشكيل م.ت.ف ،فاعترض رئيس الجلسة الملك فيصل وقال:نحن لم نكلف الشقيري بتشكيل م.ت.ف كلفناه بوضع خطة أو مشروع خطة فقط،من هنا كانت مهمته صعبة في أن يقنع أو يحدث توازنا بين أطراف عديدة كانت ضد وجود هذا الكيان الفلسطيني، كالسعودية، كما كان للأردن وسوريا تحفظات جدية على إيجاد الفكرة ، كان عليه أن يقنع باقي الرؤساء العرب .
في النهاية كان هناك إجماع على التشكيل ،مع أن الملك فيصل وافق ظاهريا الا أن السعودية لم تستقبل الشقيري أو أحد من اللجنة التنفيذية حتى الأموال التي كانت تستقطع من الموظفين الفلسطينيين كانت تسلم لفتح وليس لمنظمة التحرير،بعد شهور من تشكيل الشقيري للمنظمة عمل ميثاق قومي ،وشكل مجلس وطني، وصندوق قومي ،وجيش تحرير في غزة وسوريا والعراق ،ومركز أبحاث مقره بيروت وإذاعة صوت فلسطين من القاهرة،كيف استطاع أن يفعل هذا في فترة وجيزة؟؟!!
لم يكن يسمح للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية باستخدام جيش التحرير في اي مهمة نظرا لقرار جامعة الدول العربية،بأن يكون جيش التحرير تابعا لرئاسة أركان الدول المضيفة ،بالنسبة للصندوق القومي لم يكن للشقيري أي طلبات خاصة ،ولم يكن يتقاضى راتبا ،كانت مهمته تنظيم الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج ،وفتح مكاتب للمنظمة لتكون نوافذ على الساحة الدولية ،حيث فتح مكتب في الصين وفي الاتحاد السوفيتي، بهذا أصبحت القضية الفلسطينية حاضرة في المحافل الدولية،لم يتمكن الشقيري من كسب كثير من أعضاء اللجنة التنفيذية، وذلك لتفرده في اتخاذ القرار وعدم ديمقراطيته.
بعد هزيمة حزيران عقد مؤتمر القمة في الخرطوم ،لم تدع م.ت.ف للمؤتمر ،سافر الشقيري إلى الخرطوم، لكنه منع من الحضور ،فهدد بعقد مؤتمر صحفي في جوامع الخرطوم وتأليب الجماهير ضد المؤتمر، فأذن له بالحضور وفي المؤتمر وجه النقد للملوك والرؤساء العرب لعدم استخدام سلاح النفط في وجه أمريكا التي كانت داعماأساسيا لإسرائيل، وطرح في المؤتمر لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف بإسرائيل، هذا أوجد مناخا سلبيا ضده ،مما أدى السعودية بأن ترفع مذكرة لجامعة الدول العربية تطالب بتغييره بالتزامن مع مذكرة صادرة من بعض أعضاء اللجنة التنفيذية تطالب باستقالته ،أمام هذه الأجواء السلبية والتي لم تكن في صالحه قدم استقالته،بعدها تفرغ للكتابة فكسبته فلسطين كمؤلف ومؤرخ، وكتب سيرته الذاتية التي أعتبرهاالبعض من أجمل ما كتب من سير الذاتية العربية ،حيث أنه مزج الأدب بالسياسة، عند زيارة الرئيس السادات للكيان الصهيوني قال:الخشية من التسوية ليس الأعتراف بإسرائيل فقط ،لكنهاستغير أفكار جيل، ستخرج ثقافات تتحدث بالتسوية،كيف وقتها سنعيد القضية الفلسطينية لقضية تحرير ،وجاء بمثل عندما جلس مع بعض شيوخ الأزهر قال له أحدهم “أن جنحوا للسلم فاجنح لها”انظروا حتى الآيات أصبحت تسخر لعمليةالصلح، مع انهم لم يجنحوا للسلم، فالذي يجنح للسلم يتنازل عما أغتصب.
غادر القاهرة قبل أن يرفرف علم إسرائيل في عاصمة العرب ،وعندما سمع بذلك أصابه الشلل ،بهذا كان في قمة الإخلاص لقضية عاش من أجلها وقال رحمه الله “إن ضياع القدس ستعيشه في ضياع ومقت وتفتت وألم دفين “وأوصى بأن يدفن على تخوم فلسطين في منطقة الأغوار التي أمتلات بمقابر الشهداء وأن يجعل قبره ملازما لضريح الصحابي أبي عبيدة فاتح فلسطين ومحرر بيت المقدس.
بالرغم من كل ذلك يبقى الشقيري قامة وطنية عربية فلسطينية ، لها بصمتها على مرحلة من مراحل الكفاح الفلسطيني.