أعلنت دولة الإمارات العربية المتحدة العام 2019 عاماً للتسامح، والذي يشمل سياسات الدولة على أرضها تجاه العاملين فيها من جميع الجنسيات والأديان والثقافات، وسياساتها الخارجية أيضاً تجاه الأديان والثقافات، وفي العمل على تأمل ومعالجة المشكلات العالمية المتعلقة بهذا المفهوم والمفاهيم المجاورة، مثل التعارف والعدالة والسلام. وكان منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة (ومقره في الإمارات)، قد أعلن أنّ مؤتمره السنوي السادس سيحمل هذا العنوان، وتكون موضوعاته على أساسٍ منه. وفي السياق نفسه أعلنت دولة الإمارات عن زيارة البابا فرنسيس للدولة في مطلع شهر فبراير المقبل. والبابا فرنسيس ليس بحكم منصبه فقط؛ بل وبحكم أعماله ورسائله ورحلاته خلال الأعوام الماضية، هو بالفعل شخصية رئيسية عالمياً في مجال التسامح والسلام بين الأديان والثقافات والتضامُن مع المهاجرين والمهجَّرين واللاجئين الذين يشكون الغربة والتمييز والجوع وانتهاك الحقوق الإنسانية الأساسية. وهو عندما يأتي إلى دولة الإمارات الزاهرة في مطلع عام التسامح، إنما يؤكد صدقية دعوة الإمارات، وصدقية الرسالة الإنسانية التي تحملها.
تعود رسالة التسامح في مرحلتها الغربية الحديثة، إلى كُتيبٍ بهذا الاسم نشره الفيلسوف الإنجليزي جون لوك في النصف الثاني من القرن السابع عشر. والمشكلة المباشرة التي أراد معالجتها هي الصراع الهائل الذي كان ناشباً بين البروتستانت والكاثوليك عبر القارة الأوروبية؛ لاسيما غربها. وهو صراعٌ خاضته أُمم أوروبا ودولها، لأنّ الانقسام بدأ دينياً داخل المجتمعات، ثم صار سياسياً واستراتيجياً بين الدول. هذه هي المشكلة التي أراد لوك وآخرون في إيرلندا واسكتلندا وفرنسا وألمانيا والدول الاسكندنافية معالجتها. لكنه، وهو يبحث عن سُبُل للمعالجة وتهدئة الصراعات، كان مضطراً لمعالجة موضوعاتٍ فكرية ولاهوتية، مثل اعتقاد أهل الدين أو المذهب أنهم وحدهم يملكون الحقيقة وسبيل الخلاص، ومثل علائق الدين بالدولة، وعلائق الدولة بمواطنيها على اختلاف أديانهم ومذاهبهم. فالله سبحانه وتعالى خلق البشر جميعاً، وظهرت الديانات والمذاهب التي وإن لم تكن كلها صناعةً إلهية، لكنّ الله عَزّ وجلّ لم يُفْرِدْ أياً منها بالحقيقة كلّها، وأنّ مقاصده سبحانه تعالى تستعصي على الحصر والإحاطة. والدين المسيحي في الأصل دينٌ واحد، وهو عندما انقسم، فليس معنى ذلك أن أياً من القسمين استخلص الحقيقة الإلهية لنفسه. ولأنّ الاعتناق الديني تعبيرٌ عن الحرية العميقة لكل فرد؛ يكون على الطرفين المسيحيين أن يعترف كلٌّ منهما للآخر بالحقّ في الاختلاف، باعتبار أنّ الجميع في عناية الله الذي خلقهم وزوَّدهم بحرية الاختيار. لكن من ينقذ حقّ الاختلاف هذا ويرعاه ويصونه؟ إنه بالطبع الدولة أو النظام السياسي، الذي ينظر إلى سائر رعاياه باعتبارهم متساوين في الحقوق والواجبات، وضمن ذلك رعاية الحق في الحرية الدينية، حتى ولو كان الملك على عقيدةٍ تخالف عقائد بعض رعاياه.
في الأصل، ما كانت هناك حروبٌ دينيةٌ أو باسم الدين داخل المجتمعات والدول في دار الإسلام، أو الدول التي كانت غالبية سكانها من المسلمين. لكنّ المسلمين عرفوا الحرب الدينية في ثلاثة أزمنة: زمن الحروب الصليبية، لأنّ الذين هاجموا في مطلع القرن الثاني عشر الميلادي، الديار الإسلامية في المشرق، ولأسبابٍ اقتصاديةٍ واستراتيجية، كان شعارهم الصليب، وأعلنوا أنّ هدفهم استعادة قبر المسيح. أما الحرب الدينية الثانية فقد نشبت في الوقت نفسه ومن جانب الإسبان الكاثوليك، على الدول الإسلامية في الأندلس. وبالطبع يمكن اعتبار «حروب الاسترداد» حروباً وطنيةً وقومية. الذي شنّوها أعلنوا أنهم يريدون تحرير أرض المسيح في إسبانيا من «المسلمين الغُزاة». لكنهم لم يكتفوا بالتحرير من السيطرة الإسلامية، بل كان المسلمون حتى من ذوي الأصول الإسبانية معرضين للتنصير أو الإبادة أو التهجير. أما الحرب الثالثة والتي تلبست لَبوساً دينياً فهي حربٌ استراتيجية اندلعت بين العثمانيين والصفويين، واستغرقت قرابة القرنين من الزمان.
حتى زمن الحروب الصليبية، وفي ظل السيطرة الإسلامية بالشام ومصر، ظلت أكثرية السكان مسيحية. وبالوعي القومي والثقافي والذي ظهر بأوروبا وانتشر في الشرق مع تقدم حركة الاستعمار الأوروبي في القرن الـ19، ظهرت وجوهُ وعيٍ لدى الأقليات المسيحية تنعى على التمييز وتُدينُهُ رغم الإصلاحات العثمانية. بيد أنّ معظم المفكرين النهضويين العرب، وبينهم مسيحيون ومسلمون، دعوا لكياناتٍ وطنيةٍ وقوميةٍ مدنية يسودها التسامح الذي كانوا يسمونه التساهل.
وخلاصة الأمر أنه ما كانت هناك، في الأزمنة الحديثة خصوصاً، مشكلات تمييز باسم الدين في الدول العربية. والدول الوطنية التي ظهرت، أياً كان نظام الحكم فيها، ما شهدت تمييزاً باسم الإسلام أو لصالحه. وإنما الذي حصل أنه ظهرت بين المسلمين تياراتٌ متشددة ضد مسلمين آخرين بالأساس، وضد نظام الدولة الوطنية، واستطراداً ضد أهل الديانات الأُخرى. ونحن نعلم أنه ومنذ عام 2001، صار الإسلام مشكلةً عالمية. لذا، وإلى جانب شنّ الحروب على إرهاب المتطرفين، صار مسوَّغاً بل ضرورياً ومن جانب الدول والمؤسسات الدينية، نشر رسالة الإسلام في التعارف بالداخل العربي المتنوع دينياً وإثنياً، وفي العالم. كما صار ضرورياً قيام الدولة الوطنية العربية بواجبها في ممارسة التسامُح الديني والقومي والسياسي، وهي الرسالةُ التي تتصدى دولةُ الإمارات للقيام بها والتأكيد عليها منذ عقود، وفي حكومتها وزارة للتسامح. لذلك فإنّ 2019 يشهد بالدولة الزاهرة نهضةً جديدةً لتصحيح صورة الإسلام، ونشر قيم الدولة الوطنية المدنية العربية، التي ينبغي أن تصغي لها الدول الوطنية العربية الأخرى.