في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وفي ظل حالة من الخلل الاستراتيجي الشامل، بلغت الاعتداءات الجوية الاسرائيلية أوجها دون رادع، وفاض مسلسل غاراتها عن نطاق ما كان يعرف باسم دول الطوق، الى رقاع ابعد مما كان يخطر على البال، حيث وصل مدى ذراعها القاتل الى بغداد وتونس والسودان في وقت لاحق، وذات مرة طالت القوات المجوقلة (المحمولة جواً) مدينة عنتيبي على خط الاستواء، وكان ذلك ذروة ما تباهت اسرائيل به على العرب والعالم.
لم يبقَ اليوم من صورة اسرائيل المعربدة هذه سوى مشهدين اثنين، ليس جراء ضعف او تآكل في قدراتها العسكرية، وانما بفعل انتفاء الاهداف الحربية في المجال الاوسع، وهي تكرر الآن تظهيرهما على نحو شبه منتظم؛ الاول في سماء قطاع غزة المستباح ليلاً ونهاراً، والثاني في الفضاء السوري المفتوح امام اسراب الطائرات المغيرة من كل جنس وهوية، وسط ما يشبه التسليم بهذا “الحق” المنتزع بقوة الحديد والنار، او باعتباره تحصيل حاصل من جانب كل المخاطبين به.
فيما يتعلق بالمشهد الاول، تمكنت اسرائيل من املاء قواعد اشتباك على حكم حركة حماس في القطاع المكتظ بالسكان، لاذت بموجبه الحركة المحاصرة بالصمت المطبق ازاء هذه الاعتداءات، بعد ان فقدت تهديداتها السابقة القدرة على الردع، رغم ان الغارات أخذت تستهدف شبكة الأنفاق بالدرجة الاولى، وهي أثمن ممتلكات الحركة، وذلك من غير ان يردّ الشيوخ الشباب بما درجوا على التهديد به في السابق، مثل التحذير من الرد الزلزالي، وجعل اسرائيل تعض اصابعها ندماً، اذا ارتكبت حماقة اخرى.
اما فيما يتصل بالمشهد الثاني، فإن قواعد الاشتباك مستقرة، منذ حرب العام 1973، من جهة على اساس مبدأ ” الاحتفاظ بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين” من جانب دمشق المستضعفة جهاراً نهاراً، والمعتدى عليها على طول الخط، ومن جهة اخرى على اساس حرية العمل بلا قيد او شرط من لدن دولة مدججة بالقوة المفرطة والعدوانية المستشرية في اوصال مجتمع يزداد ميلاً الى الفاشية والعنصرية، ويرغب في فرض نفسه كطرف مقرر في مستقبل التسوية السياسية في سورية، ولو بعد حين.
نستحضر هذين المشهدين المؤلمين الى الذاكرة، بمناسبة آخر عدوانين كبيرين قام بهما سلاح الجوي الاسرائيلي، اولهما على موقع عسكري سوري قبل نحو اسبوع، وثانيهما على نفق شديد الاهمية في جنوب قطاع غزة قبل ثلاثة ايام، حيث تم الرد على الاول منهما ببيان خرج عن النص المعهود، القائل بالاحتفاظ بحق الرد، من خلال الادعاء بإصابة طائرة مغيرة وإسقاط ثلاثة صواريخ موجهة، فيما مرّ الثاني دون اي كلمة، حتى ولو من قبيل التهديد بالرد.
كم يتمنى المرء من صميم قلبه لو أن البيان العسكري السوري كان صحيحاً، كون ذلك يستبطن نقلة نوعية في مجرى المواجهة، او ربما تحولاً في سياق هذه اللعبة الحربية المختلة بشدة، وكنا سنحيل هذا التطور المرغوب فيه الى منظومة الدفاعات الروسية، غير أننا ندرك ان الامر مجرد تنفيس عن وضعية حرج بالغة، وحالة غضب يشوبها العجز، فضلاً عن الرغبة في الكف عن تلك اللغة الخشبية، التي لم تعد تقنع اصحابها، الذين اثاروا السخرية وهم يرددون مقولة الاحتفاظ بحق الرد.
وبالمقابل، ليس في الامر تحريضاً لحركة حماس على الاستجابة لمثل هذا الاستدراج الاسرائيلي، ولا العودة الى لغة الوعيد والتهديد التي لا طائل من ورائها، وهي في واقع الامر ليست في حاجة لأي نصيحة ممن سيتفرجون على الايقاع بها، ومن ثمة التغني ببطولات مقاتليها، الا ان هذا الموقف المفتوح على اشد الاحتمالات خطورة يتطلب اجراء المراجعات السياسية الحصيفة، بعيداً عن الحسابات الجزئية الصغيرة، والتعلق بأهداب المراهنات المستحيلة، ونعني بذلك العودة الى بيت الوطنية الفلسطينية الجامع، القادر على تأمين حماية نسبية من المذبحة المحتملة.
يبقى ذلك السؤال الذي يقضّ المضاجع، وهو هل الصمت الروسي ازاء الاعتداءات الاسرائيلية المتواصلة على سورية، ناجم عن غض بصر جراء تعقد حسابات موسكو مع طهران، وتباين الاجندات بينهما، ام انه بفعل توافق صامت بين كل من تل ابيب وقاعدة حميميم، منح حرية العمل للدولة العبرية؟.