لأن النظام العربي الرسمي، لا يمتلك “خطة ب” للتعامل مع مرحلة ما بعد “انهيار عملية السلام” وتآكل حل الدولتين” … ولأن معظم، إن لم نقل جميع الحكومات العربية، ما زالت ترى ان “99 بالمائة من أوراق الحل في يد أميركا” … ولأن معظم الحكام النافذين في هذا الإقليم، يرون في إيران، وليس إسرائيل، عدوهم الأول والأخير … ولأن غاية كل هذه الحكومات هو استرضاء واشنطن بالاستجداء لها، أو حتى مناكفتها … فلسنا على ثقة بأن قرارات ترامب الهوجاء الأخيرة، وما أثارته من ردود أفعال سياسية ودبلوماسية وميدانية، رسمية وشعبية، ستنتهي إلى تغيير ملموس في المقاربات والسياسات الرسمية العربية (بما فيها الفلسطينية)، بل ونذهب أبعد من ذلك للقول: إن جهوداً قد بدأت تبذل لقراءة ما بين سطور قرار ترامب، عل وعسى أن تجد فيه بعض حكوماتنا، ما يمكّنها من اجتياز هذه “القطوع” واستئناف يومياتها (وأولوياتها) المعتادة، وكأن شيئاً لم يكن.
ولا شك أن واشنطن، أدركت متأخرة، وربما أن بعض دوائرها كانت تدرك من قبل، أن قرارات بحجم الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها من تل أبيب، ستثير “سورة غضب” في مختلف أرجاء العالمين العربي والإسلامي، وهو ما حصل ويحصل … ولا شك أن الديبلوماسية الأمريكية لم تتفاجأ بمواقف مختلف دول العالم، الصديقة منها لواشنطن والعدوة لها … والمؤكد أن مسار احتواء التداعيات قد انطلق، وأن واشنطن قد اخذت في مدّ بعض الخيوط متأكدةً بأن من بين القادة والحكام العرب، من سيسعى متلهفاً لالتقاطها.
أن يقول ريكس تيلرسون بأن عملية نقل السفارة من تل أبيب للقدس، سيستغرق وقتاً يتعدى العامين، فهذا أمرٌ يعرفه أي “مقاول” من الدرجة الثانية، فما بالك بالنسبة للذين على دارية بمعايير ومقاييس و”كودات بناء” السفارات الأمريكية في الخارج … لكن الرسالة من وراء هذا “التوضيح” واضحة للغاية … تيلرسون يريد القول إن هذه فترة كافية لإنجاز “صفقة القرن” وإنجاحها، فلم العجلة والتطيّر، وسيردد عربٌ كثر، صدى تصريحات تيلرسون و”توضيحاته” من دون شك.
وأن يقول تيلرسون، وتردد من ورائه نيكي هالي، إن قرار الرئيس لم يقترح حدوداً معينة للقدس، وأن أمر تقرير هذه الحدود وترسميها، متروك للمفاوضات بين الفلسطينين والإسرائيليين، فمعنى ذلك أن القرارات الرعناء للرئيس ترامب، لا ينبغي أن تحدث تغييراً في أجندة دول المنطقة وأولوياتها… كوشنر سينتهي من إعداد “صفقة القرن”، ومايك بينس سيعرض ملامحها في رحلته القادمة للمنطقة، والرئيس ترامب سيعلن عنها رسمياً مطلع العام القادم، وعلى العرب والفلسطينيين الانتظار والانضباط، فلا شيء تغير سوى أن “القدس الموحدة”، باتت من منظور واشنطن، عاصمة أبدية لدولة إسرائيل، وللفلسطينيين أن يكتفوا بـ “أبو ديس” عاصمة لهم، وسيكون هناك ضمانات لحقوق الأقليات الدينية والقومية الأخرى في المدينة، وبما يذكر بنص وروح ومفردات “وعد بلفور” الشهير.
في المدى الفوري والمباشرة، وفي ظل “سورة الغضب” الشعبي التي اجتاحت المنطقة برمتها، لا تمتلك الحكومات العربية، سوى واحد من خيارين: ركوب الموجة وامتطاء صهوتها، أو الاعتصام بحبل الصمت بعد أن أدركها صباح السابع من ديسمبر المشؤوم، وسكتت عن الكلام المباح.
لكن هذه الحكومات، وبعد أن تهدأ شوارعها، ستعود لتذكيرنا بلغة “العقل” و”الواقعية”، “الحنكة” و”الحكمة”، وسيستحضر كتابها وإعلاميوها والناطقون باسمها، كل الأمثال والقصائد التي قيلت ونظمت في تمجيد شعار “ما لا يدرك كله لا يترك جله” … وسينبش مؤرخوها فصولاً منتقاة من كتب التاريخ للبرهنة على بؤس خيار “تفويت الفرض وإضاعتها”.
بل وسيجد هؤلاء في الوقفة الدولية إلى جانب فلسطين والقدس، وانعزال واشنطن وتل أبيب، فرصة إضافية لتذكيرها بخطورة “تبديد الفرصة الناشئة وإضاعتها” … ليقترحوا في ضوء ذلك كله، استمرار نهج المفاوضات العبثية والاستمساك بأوسلو طريقاً وخياراً، والقبول بالمعروض والممكن اليوم، حتى لا يصبح عصياً على التحقيق في الغد … سنسمع الكثير عن “ضبط النفس” و”عدم الانجرار” و”عن تربص المتربصين” … وسيقال أن الالتفاف حول القرار الأمريكي ممكن، إن بقينا في حضن واشنطن، وحرصنا على عدم عزلها وإبعادها، حتى لا توغل في انحيازها المتطرف لإسرائيل ويمينها الديني والقومي.
وبدل أن تتواصل الضغوط والجهود لإسقاط القرار الأمريكي، وإخراج القضية الفلسطينية من قبضة “الوكالة الحصرية” لواشنطن، سنرى وجهة هذه الضغوط قد تبدلت، وتحولت صوب رام الله وغزة، بهدف إبقاء الفلسطينيين، في إطار “ردود الأفعال العقلانية” … وبعد ان تكون واشنطن قد فرغت من تقديم “القدس الموحدة” على طبق من فضة لإسرائيل، سيجهد بعض العرب في تقديم “رأس اللاجئ الفلسطيني” على الطبق التالي، وربما سيتبرع بعض الأخوة والأشقاء، في تقديم المال والأرض لتوطين اللاجئين، والبحث عن موطن جديد للفلسطنييين، بعد أن يكون وطنهم الأصلي قد تآكل بفعل الضم والاستيطان الزاحفين … أليس هذا هو “الإطار الإقليمي” للحل من وجهة نظر ترامب؟ … أليست هذه هي مضامين تسريبات “نيويورك تايمز” و”فوكس نيوز” عن “صفقة القرن” وأدوار مختلف الأطراف العربية فيها؟