الاستقالة المفاجئة لرئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري كانت من العيار الثقيل، أي ليست مجرد استقالة عادية، تماثل ما شهدته الحياة السياسية من استقالات سابقة في بلد الطوائف والمصارف، ولا تخاطب هذه الأزمة المرشحة للتفاقم الداخل اللبناني وحده، كما أن انفجارها في هذا الوقت الحرج لم يكن ناجماً عن عوامل ذاتية محضة، الأمر الذي يمكن معه وصف ما حدث على أنه زلزال سياسي محلي بارتدادات اقليمية واسعة، قد تفضي إلى إعادة تغيير قواعد اللعبة، التي استهلكتها سلسلة من الاختلالات والتحولات والانهيارات في التوازنات القديمة.
وفق هذه الرؤية، تبدو استقالة سعد الحريري نقطة فاصلة بين زمنين في حياة البلد الصغير، وفاتحة عريضة لجملة من التطورات التي قد تنقل لبنان من خانة صندوق البريد بين المتصارعين في المنطقة، الى ساحة المواجهة المباشرة بين القوى المتنافسة على النفوذ والسيطرة والمصالح المتناقضة، في رقعة جغرافية أوسع من حدود بلاد الأرز، وهو ما يعني ان العرب وغير العرب، بمن فيهم الإيرانيون والاسرائيليون، معنيون بهذه الاستقالة المدوية، لا سيما إن انطوت على تصعيد كبير في لهجة الخطاب الموجه ضد إيران المهيمنة على مفاتيح السلطة اللبنانية.
ولعل أول التبعات المحتملة لهذه الاستقالة النادرة، التي حدثت عبر فضاء البث التلفزيوني، دخول لبنان في حالة استعصاء مديدة، قد تؤدي إلى تعميق الانقسامات، وتفريغ المؤسسات وتقويض الشرعيات، وتأجيل الانتخابات المقررة في ربيع العام المقبل، الأمر الذي سيفتح الباب على مصراعيه أمام أزمة داخلية تعيد خلط أوراق اللعبة السياسية، وتفضي بالضرورة الموضوعية إلى انهيارات اقتصادية شديدة الوطأة على العملة الوطنية، وعلى النظام المصرفي الموصوف كقلعة الصمود الأخيرة، وهو ما يحسب له اللبنانيون ألف حساب، قبل أن يعددوا خسائرهم الأخرى.
على أن ما يهمنا نحن في المحيط المجاور للبنان، ويدعونا إلى الإشفاق والتحسب والخشية من مغبة التطورات المتوقعة في بلد التوازنات الهشة، هذا التسخين المفاجئ للمناخ السياسي في الإقليم الملتهب أساساً، وهذا التصاعد الهائل في الأخطار المحدقة بالمنطقة القابلة للاشتعال بسرعة، ناهيك عن الارتفاع الصارخ في الرهانات على وقوع عدوان اسرائيلي جديد، بعد أن ارتفع الغطاء، وتهيأت الأجواء أكثر من ذي قبل، لوقوع ما يطلق عليه حرب لبنان الثالثة، هذه الحرب التي لم يعد السؤال المتعلق بها؛ هل ستنشب أم لا، وإنما متى ستحدث، وما مدى اتساع رحاها؟.
إزاء ذلك، يبدو كل هذا الاهتمام باستقالة الحريري مشروعاً ومفهوماً بالكامل، وكل هذه التغطيات الإعلامية الكثيفة منطقية تماماً، طالما أن الحدث اللبناني شكّل ما يشبه الانقلاب على دويلة حزب الله القابضة على مفاصل الدولة المغلوبة على أمرها، وأن فائض القوة الكامنة لدى هذا الحزب، أو قل هذه الذراع الإيرانية، لم يتم تصريفها بعد، وفضلاً عن ذلك، فإن خطوة الحريري هذه تظل بلا معنى، إن لم تكن ممهدة لخطوة أخرى قادرة على توظيف ما خلقته من تداعيات لا تزال في طور مخاضها الأول، في صورة مكاسب سياسية، أحسب انها ما تزال عسيرة.
وإلى أن تتضح مفاعيل هذه الاستقالة المفتوحة على كل الاحتمالات الممكنة، باستثناء الاقتتال الأهلي، فإن الأنظار سوف تظل مشدودة، خلال الأسابيع المقبلة، ليس فقط نحو الداخل اللبناني المتخوف من المضاعفات السليبة على أمنه واستقراره ومعيشته اليومية، وإنما أيضاً نحو ما قد يقع من تطورات غير مستبعدة في الجنوب النائم على أكثر من مائة ألف صاروخ، تهيأت اسرائيل طويلاً للتعامل معها، وهددت باستهداف لبنان كله، وإعادته الى عصر ما قبل الكهرباء، إذا دخل الجيش اللبناني طرفاً في معركة، من المقدر لها أن تكون أشد هولا من كل سابقاتها.
نحن إذن أمام ما هو أبعد من أزمة حكومية كسابقاتها، أي أمام أزمة حكم مزمنة، وقعت هذه المرة في خضم مرحلة انتقالية، يحتدم فيها الصراع الإقليمي والدولي على صياغة مستقبل هذه المنطقة التي تغصّ بمشكلات لا حلول لأي منها في المدى المنظور، الأمر الذي يجعل مما جرى في لبنان، أزمة ساخنة إلى ما تحت درجة الغليان بقليل، مضافة إلى جملة الأزمات الأخرى المستحكمة بحاضر الشرق الأوسط كله.