عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب – صدمني أن يشرع أحد أهم الاحزاب الاردنية “حزب التيار الوطني” في حل نفسه بعد الاعلان الاولي امس في مؤتمر صحفي حيث أحال رئيس الحزب والامين العام اقتراح الحل الى القيادات والى قاعدة الحزب “الهيئة العامة” التي ستصوت على القرار الاسبوع القادم ليصبح الامر نافذاً ..
لا اعرف ما هي ردود الفعل الاولية التي صاحبت نيّة قيادة الحزب في حل نفسه خاصة وأن قيادته وعلى رأسها المهندس عبد الهادي المجالي قدمت مبررات الحل وقد جاء احدها صادماً حين قال “ان الحياة الحزبية مجرد ديكور” رامياً بذلك حجر كبير في ماء الاحزاب الراكد لتتشكل بذلك دوائر تحتاج إلى رصد ..
الحزب “التيار الوطني” كان يصنف بأنه الحزب الوسطي الاول والثاني بعد حزب جبهة العمل الاسلامي عدداً وعدة وهو في مقدمة الاحزاب الاردنية جميعها .. وظل الحزب قريباً من الدوائر الرسمية، مترجماً للسياسات العامة وقد قيل في تاريخ نشأته أنه جاء في تأسيسه مزكيّاً برغبة ملكية انتقلت منذ فكرة التشكيل التي كانت تحمل اسم حزب العهد بعد صدور الميثاق الوطني الاردني عام 1991 وإلى مباركة رسمية من الديوان في عهد الملك عبدالله الثاني حين اصبح اسمه حزب التيار الوطني وهي الرواية التي يرويها الباشا عبدالهادي عن نشوء الحزب ودوره ومكانته ..
ما الذي حدث؟ ولماذا تركت أغصان الحزب تجف وجذوره تتيبس؟ هل عن قلة في الرجال والمال؟ أم لاسباب اخرى؟
المهندس المجالي وقيادته الحزبية ترد أن الموضوع لا يتعلق بالرجال (العضوية) ولا بالمال (الميزانية) وإنما بتصحر الحياة الحزبية وجفافها ورياح السموم التي ضربتها فاقتلعت كل نباتاتها وان غياب الاصلاح السياسي عزل العمل الحزبي وحوله الى أشجار جافة من العوسج وزاد ان (قال في المؤتمر الصحفى الذي لم ينقل بأمانة حين وصف الاجتماع الأول بأنه حل للحزب) ان الحياة الحزبية مجرد “ديكور” وهو تعبير صاخب يتصادم مع القناعات الرسمية التي استدعت رد وزير التنمية السياسية موسى المعايطة والذي لم يتوقف طويلاً عند الاسباب والدوافع ولم يقدم تحليلاً كافياً، وإنما بادر إلى الرد المباشر مقدماً الرواية الرسمية وغامزاً في الدوافع والاسبابالتي قدمها المجالي وقد أحالها إلى اسباب اخرى لم يذكرها ..
ويبدو ان السجال سيبدأ لاحقاً، فحل الحزب هو ضربة لسياسات الحكومة المسترخية في هذا المجال وان كان الوزير النشط في التنمية السياسية لم تطاوعه الريح ولم تجرِ سفن الحياة السياسية بما يشتهي، إذ كسر اندفاعه واحيل أكثر من مرة الى فلسفات مختلفة لا يرى معظم أصحابها جدوى من الاحزاب والحزبية رغم رغبة الوزير في اعراب الجملة الملكية في الاوراق النقاشية وهي الاوراق التي حولتها الحكومات المتعاقبة واخرها هذه الى مزامير لا تريد قراءتها أوإدراجها في اطار التنفيذ أو جعلها وصفه علاجية لتصحر الحياة السياسية العامة.
أذكر أنه في وقت مبكر وفي عهد الملك الراحل كان المهندس المجالي قد دعي في لقاء مع صحفيين داعياً الى ضرورة استكمال الحياة السياسية وان تتشكل الحكومات من الاحزاب المؤتلفة وراء الحزب الاكبر وأن يجري انتخاب رئيس الوزراء ويومها قامت الدنيا ولم تقعد وكتب الراحل خالد محادين الذي كان مستشاراً اعلامياً في الديوان الملكي في عهد الملك الحسين يُحرّض على ذلك ويُحذّر من خطورته .. وقد جدد المهندس المجالي دعوته الى مثل هذه الخطوة السياسية مرة اخرى في زمن حكومة الرئيس علي ابو الراغب في كلمة القاها باسمه في البرلمان ومرة اخرى قامت موجة من اللوم والعتاب يذكرها الرئيس ابو الراغب الذي كان ثمرة من ثمار البرلمان وحين لم تكن عنده قناعة مضادة قام من يحرض لتوليد تلك القناعة ويومها سكت الباشا عن الكلام المباح وطوى الاوراق وصمت وواصل العمل الحزبي معتقداً انه يترجم الرغبة الملكية التي جاءت واضحة في الاوراق النقاشية والتي جرى وضعها فوق الطاولة كوصفات لم تصرف .. رغم الالحاح الملكي وتراكم اعداد الاوراق بما فيها الاهم التي تحدثت عن الحياة السياسية البرلمانية والحزبية وتناولت قانوني الاحزاب والبرلمان. وبدل ان نذهب باتجاه المدّ وجدنا انفسنا نذهب باتجاه الجزر كما يقوم المهندس المجالي وإذا بنا بعد اقتراح القائمة الحزبية كقائمة موازية لقائمة الدائرة نعطل ذلك ونخوض الانتخابات الاخيرة التي جاءت بهذا البرلمان بدون قوائم وكأنك “يا أبو زيد ما غزيت”.
لماذا مرة أخرى يتساءل عبدالهادي المجالي والدكتور صالح ارشيدات ومجموعة قيادة الحزب .. الذين جاءوا لتشييعه وسط صمت وذهول من كثير من المراقبين؟ لماذا يضرب اهم قانونين في تنظيم الحياة السياسية وهما قانون الاحزاب الذي اجهض في نسخته الجديدة وقانون البرلمان الذي اصبح عقيماً لا يلد اي مولود للديموقراطية ..
ماذا يريد عبد الهادي المجالي؟ هل يريد مجرد الضجة وتشكيل دوائر في مياه المستنقع الذي ألقى فيه حجراً؟ أم يريد إحراج حكومة الملقي التي تعيش حالة من جفاف المشاركة وتراجع الحياة الحزبية والسياسية وجمود الحوارات؟ أم يريد خدمة الفكرة الاولى التي ظل يدعو لها منذ كان وزيراَ للأشغال في حكومة الكباريتي وقبل ذلك وهو أن تسري الحياة السياسية من خلال برنامج اصلاح سياسي لا يطيل المسافة وانما يدرك المشاركة قبل فوات الاوان مستفيدا من وجود الاحزاب الناشئة آنذاك ومن قيام الميثاق الوطني الذي كفل مظلة وتشريعات للحياة الحزبية.
يقول المهندس المجالي أنه دائما وفي كل لقاءاته مع الملك الراحل وحتى ما اتيح له من لقاءات مع الملك عبدالله الثاني حين كان رئيسا لمجلس النواب كان يثير هذا الامر ويتحمس له..
ويظل السؤال لماذا لم ينجز المهندس المجالي ذلك بحجب الثقة عن الحكومة حين كان الى جانبه حوالي ثمانين نائبا يوم القى خطابا هاما في قاعة عمان في المدينة الرياضية بموافقات عديدة هامة.. يومها لم يستعمل ذلك السلاح للضغط من اجل توليد قناعاته وهذا ما يؤخذ عليه لاحقا..
اليوم وقد شاع خبر حلّ الحزب واختلف المحللون ومراجعهم المختلفة حول هذه المسألة فهل يشعر المهندس بالأسى وهل تأتي هذه الطلقة متأخرة لتدوش بدل ان تصيب ، وهل ارادها وهو العسكري المحترف فقط تمرينا بالذخيرة الحية ومحاولة أخيرة للفت الانتباه الى عقم الحياة الحزبية وتعطلها ومصادرة الحكومات لها..
حتى حزب جبهة العمل الاسلامي وما كتبه زكي بني ارشيد الذي احترم رأيه يظهر مدى الأسى الذي تحس به الاحزاب ، فالاخوان وحزبهم لم يشمتوا في حزب المجالي معتذرا عن الشخصنة “حزب التيار الوطني” رغم أن اهدافه أن يتصدى لهم والى تأثيرهم في الشارع وهو لم يخف نواياه، وانما هم الان وقد دبّوا الصوت ليقولوا بحالة التهميش كما قال عبدالهادي المجالي.
والسؤال هل فعلا ذرائع المجالي في حل الحزب مقنعة واذا كانت كذلك فلماذا لم ترد الحكومة سوى بتصريح مقتضب من وزارة التنمية السياسية قد لا يكون كافيا لو كانت الحكومة تأخذ شرعيتها من حيث يجب ان تكون الشرعية.
اعتقد ان سيدنا سيلتفت لما يجري وسيكون له رأي فيما يجري فهو من يقود التغيير ويدعو للاصلاح ويكتب الاوراق النقاشية ويراهن على بناء حياة سياسية جديدة من خلال القوانين والمشاركة..
واذا كانت الحكومة ترغب في “التطنيش” او تجاوز هذه الخطوة التي يغيب فيها حزب كبير والتي ربما تتبعها خطوات لاحزاب أخرى فإن ذلك قد لا يمر من ملاحظة جلالة الملك الذي يحرص على تقديم الاردن بالصورة التي كتب عليها اوراقه ..
كنا نردد مبكراً كما قال الملك الراحل “الزحام يعيق الحركة” من كثرة تفشي الاحزاب التي لا جذور لها ولا اوراق تُظل أو ثمره تغني من جوع وكنّا نرى ان التواطؤ القائم منذ سنوات في أمداد أحزاب ديكورية بعضها لا يملك مقراً ويكتفي بالأمين العام وسكرتيرة بمبلغ خمسين ألفاً وهومبلغ ضئيل لكنه كبير حين يكون العدد في حدود ما ذكرت .. وحين يكون الهدف صناعة احزاب كرتونية لملئ الفراغ
الشروع في حل حزب اردني لا بد أني يفهم في سياق سياسي وتاريخي بعيداً عن التشكيك وفكرة المؤامرة وسلوك “المراجمة”بالتهم بين مؤيد ومعارض .. نحتاج إلى التقاط أنفاس والى هدوء وتفكير موضوعي نفحص فيه رواية المهندس المجالي ومبرراته ونقبلها على قاعدة نقدها من غير نقد السلطة التنفيذية فإن صحت الرواية كان لزاماً أن نعالج الجسم الحزبي برمته قبل ان يستشرى مرض تلاشي الاحزاب ونعود الى المربع قبل الحياة الحزبية عام 1989 حين كانت الاحزاب تحت الارض وحين كنّا نتهمها بالتغريب والايدولوجيا والبعد عن الحالة الوطنية.
اليوم وقد قالت الاحزاب انها وطنية والتزمت القانون واخذت بالدستور واستوت واعتدلت ودعت لولي الامر وزادت في الدعوى، فلماذا لا يسمع لها ولا نشتري بضاعتها او نقوم اعوجاجها ونعمل على توجيهها ورفدها باسباب المشاركة بدل ان تترك لتنسحب تاركة فراغاً لا تملؤه إلا الاحزاب إن كنّا صادقين !!
المجالي يرثي الحياة الحزبية .. هل استعجل؟
23
المقالة السابقة