هزّ مقطع فيديو، انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي الرأي العام الأردني، فلقي صدىً كبيراً، لما تخلله من مشاهد غير مألوفة لنزلاء في مركز سواقة للإصلاح والتأهيل، وهم يقومون بضرب أنفسهم بالشفرات والأدوات الحادّة، فيما تمّ تعريفه من قبل المعنيين بأنّه “أحداث شغب”!
هنالك لجنة تحقيق من المجتمع المدني، كما فهمنا في صدد الزيارة للسجن والاطلاع على ما حدث، فما يزال هنالك شيء غير مألوف ولا مفهوم، لماذا قاموا بعملية استعراض ضرب الذات بالأدوات الحادّة؟ هل في محاولة للادعاء بأنّ الأمن هو من قام بذلك؟ أو كانوا – كما قال البعض- في حالة من اللاوعي؟ أو عبارة عن تحدٍّ للأمن؟!
أيّاً كان السبب، فإنّ هذا “المشهد” المقلق يفتح الباب واسعاً للحديث عن “مجتمع السجون” أو ما يفترض أنّها مراكز إصلاح وتأهيل، إذ تحوّلت إلى مراكز لاستدامة الجريمة وتجذيرها، بل والتطرف الديني والفكري في كثير من الأحيان، لغياب أي عملية منهجية مؤسسية من الدولة في محاولة إصلاح السجناء وإعادة تأهيلهم نفسياً واجتماعياً وثقافياً.
خلال العمل على قاعدة البيانات المرتبطة بالتيار السلفي الجهادي، عموماً، في الأردن، وجدنا أنفسنا أمام حالات عديدة ينتقل فيها الشخص من جريمة مرتبطة بجناية معينة، إلى الفكر الراديكالي الديني، وهو نموذج ينطبق على عدد ممن خرجوا إلى سورية، بعضهم قتل وآخرون عادوا من هناك، دخلوا في قصص تزوير وتهريب وهتك عرض وخرجوا “دواعش” و”جهاديين”!
موضوع السجون أصبح بالفعل مقلقاً، ولا توجد لدينا استراتيجية إصلاح حقيقية متكاملة، ما يحوّل السجون نفسها إلى مصدر للمشكلات الاجتماعية القادمة وأوكار لتعلّم الجريمة والتطرف وتعزيز ثقافة معاكسة القانون والخروج عليه.
مشهد سواقة، أيضاً، يفتح الباب على موضوع على درجة كبيرة من الأهمية، يتمثّل بالتحولات الجوهرية، التي يمرّ بها مجتمعنا ثقافياً واجتماعياً وأخلاقياً ونفسياً، لأسباب عديدة بعضها مرتبط بالعولمة والتقنيات الجديدة، وبعضها مرتبط بالاقتصاد والأوضاع المالية وانعكاساتها الاجتماعية، وكذلك الحال بقضايا الفقر والبطالة المرتفعة والفجوات الطبقية والأزمات السياسية المحلية والإقليمية.
انتشار المخدرات، تغير نمط الجريمة صعود التيارات المتشددة دينياً، الانقسامات الاجتماعية، علاقة الأجيال الجديدة بالتكنولوجيا، كلها تستدعي دراسات وأبحاث معمّقة على صعيد علم الاجتماع، لنستطيع تشخيص الحالة وتقديم التوصيفات المناسبة لها، وتحديد المطلوب لمواجهتها.
تتزاوج ظواهر أخرى، لا تقل خطورة عمّا سبق، مع التحولات القائمة، ومن ضمنها ارتفاع معدلات الطلاق، سواء المبكّر أو المتأخر، ازدواجية التعليم المحلي والدولي، وظهور أجيال جديدة متفاوتة تماماً في ثقافاتها ومستواها التعليمي، وجدلية المحافظات والعاصمة، التي تستبطن أبعاداً اقتصادية وسياسية على السواء، العنف الاجتماعي وبروز الهويات الفرعية على أكثر من مستوى.. إلخ.
لا يمكن المرور على هذه التحولات، أو بعبارة أدق، الانقلابات الاجتماعية، من دون أن تكون لدينا “رؤية” واضحة معمّقة، لفهم ما يجري، وهي الرؤية الغائبة كما تعلمون، فنحن أشبه ما نكون بحالة “عمى” أو عتمة سيسيولوجية وسيكولوجية لا نعرف أين نقف؟ وماذا ينتظرنا؟
مثل هذه المهمات من المفترض أن يقوم بها علماء اجتماع ونفس وسياسة، تزدحم بهم جامعاتنا وكلياتنا، وطلاب الدراسات العليا، لكن هنالك قصور ملموس كبير في هذا المجال، وأحد أهم الأسباب هو احتكار مؤسسات الدولة للمعلومات وكأنّها تخشى من المعرفة والعلم، وتستمتع بحالة التجهيل أو تعتبرها امتيازاً!
هنالك ثروة من المعلومات والبيانات متوافرة لدى دائرة قاضي القضاة من المفترض أن تعطينا إضاءة مهمة على التحولات الاجتماعية على صعيد الأسرة، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالمؤسسات الأخرى كقضايا الإرهاب والتطرف والجريمة وغيرها!