تثير التطوّرات الأخيرة في ريف السويداء المحاذي للأردن سؤالاً كبيراً عن تصوّراتنا للمرحلة القادمة. فالجيش السوري يوسّع من “رقعة” سيطرته على تلك المناطق، وأصبح ممسكاً بنقاط متعددة على الحدود الشمالية الشرقية المحيطة بمخيم “الحدلات” سابقاً، الذي تمّ ترحيل سكّانه إلى مخيم الركبان، وأغلبهم عائلات لفصائل معارضة مقربة من الأردن.
في المقابل ما يزال موقف الفصائل المسلّحة (وتحديداً قوات الشهيد أحمد عبدو ولواء شهداء القريتين وأسود الشرقية) الناشطة في تلك المنطقة غير مستقر، بينما قام جيش أحرار العشائر سابقاً بالانسحاب من مناطق متعددة، وتجنّب المواجهة مع الجيش السوري وحلفائه.
أوامر الغرفة العسكرية المشتركة (الموك) كانت تقتضي انسحاب تلك الفصائل وعدم الدخول في مواجهة مع جيش الأسد، والتفسير غير الرسمي لهذه المطالب يتمثّل بأنّ ميزان القوى غير متكافئ، وأنّ المواجهة ستؤدي إلى إبادة تلك الفصائل، ولأنّها قامت بمجهود كبير خلال الفترة الماضية تمثّل بتحجيم نفوذ داعش في البادية وفي ريف السويداء تحديداً، فإنّ الخشية عليها من قبل الأردن والحلفاء هي السبب الرئيس وراء دعوتها إلى تجنب المواجهة المحسومة لصالح النظام.
قد يبدو ذلك التفسير وجيهاً، لكنّه يطفو على السطح فقط، أمّا الخلفية العميقة لموقف الأردن وشركائه فتتعدّى ذلك إلى أسباب جوهرية أكبر، في مقدمتها التحوّل الاستراتيجي في النظرة إلى تطوّر الأحداث السورية، ضمن ذلك التغير في ميزان القوى لصالح النظام السوري وحلفائه، وعدم وجود استراتيجية دولية واضحة للتعامل مع التطورات الجديدة، والاكتفاء ضمن المخططات العسكرية الأخيرة بدعم المعارضة المسلّحة فقط لمواجهة داعش، وليس لمواجهة النظام.
يضاف إلى ذلك، أردنياً، أنّ هنالك رهاناً كبيراً على الدور الروسي، وعلى مناطق منخفضة التوتر لإنجاح المشروع، وحماية المصالح الأردنية الحيوية والاستراتيجية في المنطقة الجنوبية التي تقع على الحدود الأردنية، وأصبحت مساحة واسعة منها اليوم ضمن “تفاهمات الهدنة العسكرية”، في محافظة درعا، بينما جزء آخر منها، محيط بالتنف (ومن ضمنه مخيم الركبان) يقع في دائرة النفوذ الأميركي، ما يجعل المنطقة التي يحرص النظام السوري على الوصول إليها غير مؤثرة استراتيجياً بالمقياس الأردني.
الرهانات الأردنية اليوم تذهب باتجاه دور روسي فاعل أكبر مما هي مرتبطة بالدور الأميركي، الذي أصبح “مطبخ القرار” في عمّان مقتنعاً بأنّه سيكون محدوداً، وبما أنّ المنطقة الجنوبية هي المهمة والاستراتيجية أردنياً، بخاصة محافظة درعا المأهولة في السكان، على النقيض من المناطق التي يسارع النظام للسيطرة عليها حالياً وهي صحراوية، فيها بعض نقاط حدودية فقط، ومع تبخّر المواقف العربية في سورية، وتحييد أغلب الدول التي كانت تراهن على إسقاط نظام الأسد، فإنّ الأجندة الأردنية تمّت هيكلتها بالتدريج خلال الأعوام السابقة، وهي مرتبطة أيضاً بميزان القوى العسكري وبمراقبة ومتابعة التطورات المتتالية.
كل ذلك يبدو مفهوماً ضمن تعريف الأردن لمصالحه الحيوية والاستراتيجية، لكن مع ذلك تبقى هنالك شكوك عميقة وهواجس من المفترض ألا تغيب عن الحسابات السياسية فيما يتعلّق بضمانات استمرار الهدنة العسكرية، والحفاظ على الأوراق الأردنية في سورية، ومن ضمنها الفصائل التي ساعدت الأردن على حماية مصالحه، في السياسة التي أطلق عليها مسؤولون أردنيون “استراتيجية الوسادات”.
لا توجد ضمانات على المدى البعيد إلى الآن تدفع إلى التخليّ عن الفصائل السورية المعارضة، لأنّ هناك نفوذا آخر قويا وعميقا على الأرض للإيرانيين، وأجندة مغايرة للأجندة الروسية، ما يدفع بالضرورة إلى بناء معادلة أكثر احترازاً – أردنيّاً- على الأقل فيما يخص المناطق الجنوبية عموماً والعلاقة مع المعارضة المسلحة.