صباح الإثنين الفائت، ظنّ اللبنانيّون أنّهم سيفيقون على انتصار: «حزب الله» يهزم خصومه، وخصومنا، في جرود عرسال.
أفاقوا، في المقابل، على تهديد: كلّ من لا يوالي «حزب الله» عميل. جاسوس. خائن. عليه إمّا أن يشرب البحر أو أن يشربه البحر.
هذا كان سيُعتبر تفصيلاً قليل الأهميّة لولا أنّه صوت إعلاميّ، محسوب على حرّيّة الرأي والتعبير وعلى الحقّ في الاختلاف.
نضع الحرّيّات جانباً. فمع المتخمين بمعرفة الحقّ والصواب لا حاجة إلى الحرّيّات وإلى آراء أخرى.
لكنْ، يبقى أنّ من ينتصر يتعلّم الرحابة والثقة في النفس. يدعو خصومه، وقد انتصر، إلى طيّ صفحة الماضي. إلى فتح صفحة جديدة. قد يفتعل ذلك افتعالاً لكنّه سيكون افتعالاً ذا معنى يقتضيه العرف، بل السياسة، بل التمدّن. قد يقول، مثلاً، عبارات من نوع: عفّى الله عمّا مضى. قد يتذكّر الأوصاف القديمة التي نسبتها كتب الإنشاء إلى العرب: «العفو عند المقدرة».
لحظة الانتصار، في حالتنا هذه، كانت هي ذاتها لحظة التهديد والوعيد اللذين يُطلقهما في العادة المهزوم والمحتقن واليائس. والحال أنّ التهديد اكتمل قبل أن يكتمل الانتصار. لكنْ، إذا كان الإعلام يهدّد هكذا، فكيف، يا ترى، يهدّد الأمن؟
في هذا العالم الموحل، حين يأتي صوت التهديد أعلى من صوت الانتصار، وأشدّ اكتمالاً وأسبق ظهوراً، فهذا يعني شيئين متلازمين:
– الأوّل أنّ المنتصر المفترض يستعجل التهديد. يستعجل بناء النظام الأمنيّ المرجوّ. يستعجل الانتقام والثأر. يستعجل «إعادة الربط بين بيروت ودمشق»، أي تعبيد طريق ميشال سماحة وتوسيعها. وأنّه، بالأصل، لم يكن معنيّاً بـ «النصرة» أو «داعش» أو إسرائيل إلّا لأسباب أخرى من بينها… تهديدنا. هذا تقليد يكاد يغدو عريقاً: «الانتصار» في 2000 اكتمل بجرائم 2005. «الانتصار» في 2006 تحقّق عبر غزو بيروت في 2008. هكذا فقط يكون الانتصار الممكن.
– الشيء الآخر أنّ المنتصر غير واثق في انتصاره. لهذا يوضّبه بسرعة على شكل تهديد. تساوره الشكوك في ما خصّ قدرته على إدامة هذا الانتصار. تساوره الشكوك في نفسه. ينظر حوله فلا يجد إلّا صحراء من الهزال. لقد فاز بضربة كفّ سريعة وفرّ. لكنّه يخاف من مستقبل قد يتأخّر، إلّا أنّه يبقى كابوساً ماثلاً في الأفق.
إنّه يعرف أنّ المسألة، هذه المرّة، ليست عبوة تودي برفيق الحريري أو سمير قصير. «الانتصار» بالعبوة مضمون بالطبع. العالم كلّه يُقرّ بالأستاذيّة فيه. بالحرفة الرفيعة والصنعة الدقيقة.
إنّ «منتصراً» كهذا مخيف. قد يكون مخيفاً أكثر من المهزوم الذي يفوقه بشاعة. وفعلاً، المهزوم يبقى أبشع من المنتصر من دون أن يكون بالضرورة أخطر.
إنّه يخيف كثيراً لأنّه لا يكفّ عن الظهور على عكس ما هي عليه الحال. طريقه من غرفة نومه إلى مطبخه يزعمها طريقاً إلى القدس. إنّه مخيف أيضاً لأنّه يفعل ما لا يُفعل، بما في ذلك تحويل الإعلام إلى آلة تهديد للزملاء ولغير الزملاء. لكنّه، قبل ذلك وبعده، مخيف لأنّه يطرد سواه من «الشعب». لأنّه يعتبر أنّه ومن لفّوا لفّه هم وحدهم «الشعب». سواهم «أنصار الإرهاب»!
انتصار طرف كهذا – وليكن على «داعش» أو «النصرة» أو إسرائيل – هزيمة. لن يُبتزّ أحد بالطبيعة القبيحة للطرف الآخر، لكنّ أحداً ينبغي ألّا يُبتزّ بالطبيعة المثيرة للغثيان في هذا الطرف.