كما حدث في الورقة الماضية عن الدولة المدنية، فإنّ الورقة الحالية قدّمت منظوراً توافقياً، يخرج بنا من الاستقطابات الأيديولوجية، فدخلت إلى الجدل الحالي عن المناهج وتطويرها والسجالات التي تابعناها إعلامياً، ليضع الملك الإطار الوطني الذي نفهم من خلاله الأهداف الحقيقية لقضية تطوير التعليم وأهمية ذلك، وعلاقته باللغة والدين والحداثة والمعرفة.
وكما كانت الحال عليه سابقاً بالأوراق النقاشية التي تحدثت عن الديمقراطية الأردنية وصيغتها المستقبلية والملكية الدستورية. لكن السؤال الجوهري اليوم من قبل النخب والسياسيين والمثقفين، بل حتى الرأي العام؛ ما هو موقع الأوراق النقاشية الملكية في بناء السياسات العامة؟ وماذا بعد هذه الأوراق.
هل هي أوراق ذات إلزام معنوي ورمزي أم من المفترض أن تكتسب طابعاً آخر، فيه قدر أكبر من الإلزامية، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن أن نفهم ذلك ضمن المنظومة التراتبية التشريعية المعروفة؟!
هي أسئلة مهمة وحيوية؛ فإذا كانت الأوراق الملكية تهدف إلى تأطير التوجهات العامة للدولة، وهي كذلك، ومن وجهة نظري، فإنّ الأوراق النقاشية هي ذات قيمة معنوية رمزية بحتة، تهدف إلى بناء فلسفة وطنية مشتركة، ورؤية توافقية نحو المستقبل، تجمع الأردنيين حولها، أي ترصيص الأرض العامة، التي من المفترض أن نقف عليها، ويصعب أن نجد لها “منزلاً تشريعياً”. لكن في المقابل وطالما أنّها تحظى بهذا التوافق بين التيارات والقوى السياسية، فمن الضروري أن نفكّر بترجمتها عبر أدوات أكثر وضوحاً إلى تصوّر متكامل تلتزم الحكومات ومجالس النواب بتطبيقه بوصفه الوصفة الوطنية التوافقية والمتوافقة مع الرؤية الملكية.
هل المكانة المعنوية للأوراق النقاشية تكفي؟ أعتقد ذلك، فليس المطلوب فرضها كرؤية وفلسفة على الجميع، بل من المهم النقاش حولها، والتوصل بين القوى السياسية إلى تصوّر مشترك مرتبط بها، ومن الملاحظ أنّها تركز على التوافقات لا الخلافات، ما يمثّل “بنية تحتية” مهمة لعقد مجتمعي وطني جديد، بعدما شعرنا خلال الأعوام الماضية أنّ الخلافات الأيديولوجية والثقافية تعصف بالمجتمعات والدول أولاً!
أكبر مشكلاتنا الأردنية أصبحت تتمثل بفقر الرؤية الوطنية التوافقية، وعدم قدرتنا على استبصار المستقبل، فهوية الدولة والمجتمع على السواء لم تعد واضحة، والسياسات تارةً تذهب يميناً وتارةً يساراً، فأصبحنا بالفعل بحاجة إلى بناء “الجماعة الوطنية”، أو الأرضية الوطنية العامة المشتركة، وهذه الأوراق تأتي لتضعنا على الطريق الذي يساعدنا في الوصول إلى ذلك.
بالعودة إلى ملف التعليم والأسس والقيم التي حدّدتها الورقة، من الضروري الآن أن نعيد ترتيب أولوياتنا، وردّ التعليم بالفعل إلى الموقع الذي يستحقه، وإحداث ثورة حقيقية، وتخصيص موارد مالية وبرامج تدريبية متكاملة، إذ دفعنا على البنية التحتية مليارات، وتراجعنا في ثروتنا الحقيقية اليوم الإنسان الأردني، الذي صنعه تعليم كان متقدماً على مستوى المنطقة، لكنه بات متآخراً ومقلقاً في الآونة الأخيرة!
إشراف الملكة رانيا على ملف التعليم وتبنيها لتطويره أعطاه زخماً غير مسبوق، ووجود شخصية مثل عمر الرزاز على رأس الوزارة يعزز سقف التوقعات، وهذه الورقة النقاشية تدفع به إلى الأمام، لكننا ما نزال بحاجة إلى خريطة طريق لإنقاذ التعليم العام والعالي ووضعه على قائمة أولوياتنا الوطنية.