لم تتأخر الانعطافة الروسية حيال القبول بـ «الانتقال السياسي» في سورية لتظهر على حقيقتها. فبالكاد بدأت تشاع أجواء ارتياح وإن مشوبة بالحذر لإدراج البند المرفوض جملة وتفصيلاً من قبل النظام السوري على جدول الجولات المقبلة، حتى سارعت الخارجية الروسية إلى اتهام «الهيئة العليا للمفاوضات» بإفساد المحادثات، لرفضها الاعتراف بمنصتي موسكو والقاهرة هيئات تفاوضية معارضة بدرجة التمثيل نفسها.
وصحيح إنه جرى نوع من المبالغة في التعويل على «الإنجاز» الذي أحرزته المعارضة بفرضها «الانتقال السياسي» بنداً على جدول الأعمال، وربما لانخفاض سقف التوقعات عموماً، اعتبر ذلك نجاحاً باهراً، لكن يبقى من المفيد أيضاً عدم الاستهزاء والاستخفاف بتقدم من هذا النوع في مفاوضات على درجة عالية من التعقيد وعدم التكافؤ. فقد كان لافتاً أن تنصب أخيراً غالبية الانتقادات والمطالب من أوساط المعارضة نفسها على ضرورة أن تنسحب الهيئة من المفاوضات تأكيداً لـ «ثبات موقفها» ورفضاً منها لأطياف فرضت عليها فرضاً كمنصتي القاهرة وموسكو.
وتلك مطالب، على حسن نوايا مطلقيها، تبقى ذات بعد عاطفي يرضي ربما «الكبرياء الثوري» لأصحاب الشرعية الفعلية على الأرض، ولكنه عملياً لا يشكل أداة ضغط أو مبارزة سياسية قادرة على تحقيق أي مكسب لهم. وإلى ذلك، فهو موقف أقرب إلى رد الفعل الذي لا يحمل أي بديل سياسي قابل للنقاش. فلو لبى المفاوضون مثلاً تلك الرغبة وانسحبوا بالفعل، لما كان حتى بند «الانتقال السياسي» على رمزيته ليرى النور. كما كانت المنصتان المذكورتان، وربما أضيف إليهما لاحقاً منصة بيروت، لتعتبرا الممثل الشرعي الوحيد للمعارضة السورية. ونقول الشرعي، لأن الشرعية هنا ليست مستمدة فقط من الميدان ولكن من «الاعتراف الدولي» وقابلية التفاوض السياسي.
وبهذا، إذا سلمنا جدلاً بأن السياسة فن الممكن، فإن مجرد بقاء المفاوضين إلى طاولة جنيف، ودفعهم قدماً بمطالبهم ضمن المتاح، يجب أن يحسب لهم. فهم، ولمرة، قدموا موقفاً متماسكاً إلى حد بعيد، وأثبتوا تقدماً في المهارات التفاوضية وسحبوا بالفعل ذلك الاعتراف الدولي من دون تقديم تنازلات سياسية كبيرة. فحتى شرط «محاربة الإرهاب»، تم الالتفاف عليه بديبلوماسية عالية، من دون الدخول في سجالات تعريف الإرهاب والدفاع عن مجموعات متهمة به. وحتى الساعة، لا هم قبلوا بشرط بقاء الأسد، ولا تعاونوا مع ممثليه من المعارضين الآخرين. وذلك مما يفترض البناء عليه، عوضاً عن تقويضه والعودة إلى خانة الصفر.
لكن المشكلة ليست هنا. فهي من جهة تكمن في توقع المعجزات من وفد معارض لا ينفك يتبدل أعضاؤه ويتغيرون، وقد يحظى أو لا يحظى بدعم الفصائل المسلحة، مع ما يعنيه ذلك من تشرذم في التمثيل وتكريس مسارات موازية في آستانة وغيرها، ومن جهة أخرى التعامل مع مفاوضين غير موثوق بهم من طرف النظام، ولا ضامن دولياً لأدائهم.
والحال أن روسيا، التي تضطلع بدور كبير المفاوضين لمصلحة نظام الأسد، ليست حديثة العهد في التلاعب والمناورة وخرق العهود. فمنذ جنيف1، وموسكو تؤكد عدم تمسكها بشخص بشار الأسد، حتى أنها لم تتوان عن إهانته وإذلاله والاستهزاء بجيشه. لكن الأقوال شيء، والأفعال شيء آخر. فما تفاوض عليه روسيا في سورية هو مصالحها واستثماراتها وقواعدها العسكرية، وليس لها من ضامن لذلك في الوقت الراهن غير بشار الأسد نفسه. كما تشكل سورية ورقة ضغط أساسية في يدها تلوح بها للمجتمع الدولي حين يشتد عليها الضغط في أوكرانيا. لذا، فهي لا تملك أن تتخلى عن حصان تريده رابحاً بشتى الطرق ريثما تتضح خريطة مصالح جديدة قد تفاوض عليها، وقد لا تفاوض.
وذلك المسار هو حرفياً ما قامت به موسكو في الجولة الأخيرة من مفاوضات جنيف. فقد منحت المعارضة السورية والمجتمع الدولي «حقنة مخدر» تمثلت بقبولها «الانتقال السياسي»، مثبتة مرة أخرى قدرتها الاستثنائية في «الضغط على النظام»، وهي بديهية بطبيعة الحال، لكنها عادت وأرفقت ذلك بعدد من الشروط التعجيزية، منها وضع كل المواضيع الخلافية على سوية واحدة. ثم، قبل أن تنتهي اجتماعات جنيف، كانت استخدمت في نيويورك حق «الفيتو» لوقف مشروع قرار لمجلس الأمن يدين النظام السوري بسبب استخدامه الأسلحة الكيماوية.
وعليه، أثبت عدمَ صحته وعدمَ جدواه ذاك التعويل السابق على خلاف جذري روسي- إيراني، على اعتبار أن خرق النظام وإيران لقرار وقف إطلاق النار الذي رعته موسكو في آستانة1 و2، أفقدها صدقيتها كضامن للاتفاق، ثم التسرع في إشاعة أجواء مفادها أن السوريين ميالون للتعامل مع الروس أكثر من قبولهم الإيرانيين لأسباب كثيرة منها طائفية. فالخلاف ذاك، لا يبدو أنه أفسد للود قضية بعد، ولا يعدو أن يكون مناورة إضافية يتبادل فيها الطرفان دور الشرطي الجيد والشرطي السيء لتحسين شروط التفاوض. إذ لا يزال عملياً الدفاع المستميت عن بشار الأسد ونظامه يسير على قدم وساق عسكرياً وديبلوماسياً، إيرانياً وروسياً، ولا يبدو أن ذلك قد يتغير قريباً.
أما ما يبقى لوفد المعارضة إذّاك، فالاستعداد لجولات كثيرة مقبلة من جنيف وآستانة وربما غيرهما، تحتاج قبل أي شيء الى نفس طويل طويل.