شكل وصول دونالد ترامب إلى منصب الرئاسة الأميركية ولا يزال، عاصفة سياسية هناك لم ولن تهدأ قريباً. بل اقتربت من أن تتحول إلى عاصفة دستورية بين السلطتين التنفيذية والقضائية، بعد أن أصدرت المحكمة الفيديرالية في مدينة سياتل (ولاية واشنطن) حكماً بتعليق الأمر الرئاسي لدونالد ترامب الذي يقضي بمنع دخول المهاجرين واللاجئين المسلمين إلى البلاد. تدخل القضاء هنا ليضع حداً لما بدا له أنه تجاوز رئاسي لحدود السلطة التنفيذية من خلال ما بدا أنه يضمر معياراً دينياً لحق الهجرة، وهو ما يتعارض مع الدستور الأميركي، كما تراه المحكمة. أمام هذا الاعتراض القضائي أخذت وزارة العدل القضية إلى محكمة الاستئناف لتعليق أمر محكمة سياتل للأمر الرئاسي. لكن محكمة الاستئناف رفضت الاستجابة من دون مزيد من الأدلة والشروحات تبرر هذا الطلب. عندها بات من الواضح أن القضية مرشحة لأن تنتهي إلى المحكمة العليا للفصل في موضوع حدود السلطة الدستورية لكل من البيت الأبيض والقضاء في موضوع الهجرة واللجوء إلى الولايات المتحدة.
لكن آخر الأخبار حتى أمس السبت تفيد بأن ترامب وفريقه الرئاسي تراجعوا عن الدفع بالقضية إلى ما هو أبعد من الاستئناف، إدراكاً منهم بأن العلة تكمن في صيغة الأمر الرئاسي، وأنه من الأجدى التوقف حيث انتهت هذه القضية. بدلاً من ذلك، من المتوقع، وفق هذه الأخبار، أن يصدر الرئيس أمراً رئاسياً آخر يحقق هدف الأمر الأول، لكن نصه سيكون أقل عمومية وأكثر تحديداً، بما يسمح بتفادي اعتراضات القضاء.
لم يكمل ترامب الشهر الأول من رئاسته، والمعركة لا تزال في بداياتها. السؤال: هل يتمكن الرئيس في نهاية المطاف من فرض أجندته الداخلية والخارجية؟ الحقيقة أن رئاسة ترامب تمثل سابقة في التاريخ السياسي الأميركي. فللمرة الأولى يصل إلى البيت الأبيض رئيس ليس فقط من خارج مؤسسة الحكم، ومن دون خبرة سياسية على الإطلاق، بل ليس منسجماً مع قيم وتاريخ المؤسسة التي دخل إليها بطريقة لم يستوعبها أحد حتى الآن. نعم، وصل بالأنظمة والإجراءات الانتخابية المعمول بها منذ أكثر من قرنين من الزمن. لكنه مع ذلك اخترق ليس الأنظمة التي تحكم هذه الإجراءات، وإنما القيم واللغة والتقاليد التي تشكلت ورسخت على أساس منها. بهذا المعنى يمثل وصول ترامب للرئاسة سابقة تشير إلى أن شيئاً ما، شيئاً مهماً تغيّر ليس في مزاج أو تركيبة مؤسسة الحكم، وإنما في المزاج الشعبي الأميركي، باعتباره أحد أطراف المنظومة التي حكمت النظام السياسي الأميركي. هذا المزاج الشعبي هو العامل الأهم وراء نجاح ترامب في الانتخابات.
الأزمة السياسية الداخلية التي فجرها وصول ترامب للرئاسة ليست جديدة، وإن كانت بطبيعتها ليست مسبوقة. وما ينبغي أن ننتبه إليه هو أنه بقدر ما أن وصول ترامب يعكس أزمة لمؤسسة الحكم، خصوصاً مع المكون الديموغرافي الأبيض للمجتمع، فإنه في الوقت نفسه مؤشر إلى قوة وعراقة هذه المؤسسة. ترشح ترامب كان ولا يزال تصادمياً مع المؤسسة، ليس مع أنظمتها وإجراءاتها الدستورية، حتى الآن، وإنما مع قيمها وتقاليدها السياسية. قبل ترامب كان التزام مرشحي الرئاسة منسجماً مع الاثنين. ومن ثم فإن الفصل الفج والمفاجئ بين الالتزام بقوانين المؤسسة من ناحية وقيمها من ناحية أخرى على يد المرشح ترامب، يمثل بؤرة الأزمة السياسية. أين تبدو قوة المؤسسة في هذه الحال؟ في التزامها الثابت بأنظمتها ومرجعياتها الدستورية، وبالتالي، وعلى هذا الأساس، عدم منع ترامب من الوصول إلى الحكم بذريعة أنه يتصادم مع قيمها وتقاليدها. لكن سرعة وقوف القضاء، من ناحية ثانية، في وجه الأوامر الرئاسية لترامب تؤكد متانة ثبات مؤسسة الحكم على قوانينها ومرجعياتها الدستورية، وأن هذا الالتزام كما أنه انسحب على ترامب المرشح، فإنه يجب أن ينسحب بالقدر نفسه على ترامب الرئيس. هل يستمر هذا النجاح؟
عرفت أميركا أزمات داخلية كثيرة. منها، الأزمات التي أسفرت عنها الثورة على الاحتلال البريطاني في النصف الثاني من القرن الـ18. كانت هناك كتابة الدستور، وبناء الدولة، وتحديد حقوق الولايات، ثم تعيين العاصمة. وقد تحقق النجاح في كل ذلك. ثم كانت الحرب الأهلية المريرة في بداية ستينات القرن الـ19 التي استمرت لخمس سنوات من رئاسة ابراهام لينكولن. وهو الرئيس الذي اغتيل بعد نهاية الحرب ليتحول إلى أحد أعظم رؤساء أميركا. في ستينات القرن الـ20، فجرت حركة الحقوق المدنية للأميركيين من أصل أفريقي أزمة سياسية ودستورية، بقيادة رجل الدين مارتن لوثر كنغ. وانتهت بتجريم العبودية والاعتراف بالحقوق الدستورية الكاملة للإنسان الأميركي الأسود، واعتباره مواطناً متساوياً في كل شيء مع المواطن الأبيض. لكن المجتمع الأميركي احتاج لأكثر من 40 سنة ليتمكن من انتخاب أول رئيس أسود عام 2009، هو باراك أوباما.
استطاع المجتمع الأميركي تجاوز كل تلك الأزمات بنجاح لافت، وبخط تقدمي مستمر، ابتداء من كتابة الدستور وبناء الدولة بعد نهاية الثورة، مروراً بالأزمة العنصرية التي تداخلت مع أزمة اقتصادية حادة بين الشمال الصناعي الرأسمالي، والجنوب الإقطاعي، وفجرت حرباً أهلية. نجحت مؤسسة الحكم بقيادة لينكولن في الخروج من هذه الحرب بتعزيز وحدة الدولة، وتعزيز أسسها الديموقراطية. لكن هذا النجاح، وعلى رغم إصدار لينكولن بيان تحرير العبيد حينها، لم يطاول الفصل العنصري بين السود والبيض. احتاج الأمر لأزمة الحقوق المدنية في القرن الـ20.
على رغم ذلك، استمر الخط التصاعدي، وإن في شكل تدريجي وبأثمان باهظة أحياناً، لمصلحة الديموقراطية والحقوق المدنية على أساس من الدستور نفسه الذي تعرض لأكثر من 20 تعديلاً ليستوعب هذه التحولات ويكون مرجعاً لها. ترسخت سلطات الدولة، وترسخت فكرة الفصل في ما بينها، كما تراكمت البنى المؤسساتية لهذه السلطات بإجراءاتها وتقاليدها. أمام هذه الخلفية، يصعب لظاهرة ترامب أن تنجح في زعزعة مؤسسة حكم من هذا النوع، تستند إلى موروث تشترك فيه مع غالبية الأميركيين. يواجه ترامب معارضة واسعة وقاسية في القضاء، والكونغرس والإعلام، والمجتمع المدني، ومجتمع رأس المال. يحتاج الأمر إلى ما هو أكثر بكثير من ترامب. وعلى رغم صحة ما يقال عن ميول الأخير العنصرية، إلا أن تراجعاته الكثيرة تشير إلى أمرين. أن الرجل براغماتي، وليس ممثلاً حقيقياً لقطاع كبير في المجتمع، وبالتالي ليس مؤدلجاً كما يبدو على السطح. لكن الأصح والأهم من ذلك أن هذه التراجعات تؤكد قوة ومتانة مؤسسة الحكم، كما تتبدى في السلطات الثلاث، وفي القاعدة الشعبية التي تستند إليها. سيقال إن المد اليميني في أوروبا هذه الأيام قد يقلب المعادلة. لكن يغيب عن البعض أن أميركا احتفظت باستثنائيتها أمام المد اليساري في القارة ذاتها منذ بدايات القرن الـ20، حتى سقوط الاتحاد السوفياتي، وأنها هي التي أخذت أوروبا معها… فهل يعيد التاريخ نفسه؟