انسحب الارتباك الذي صاحب إدارة أحداث الكرك الأخيرة، على ما تلاه من تطورات وأزمات، فكانت فرصة لمعاينة العوار في أداء المؤسسات على مختلف مستوياتها.
فمن القطرانة إلى القلعة وصولا إلى بلدة قريفلا، فمذكرة حجب الثقة عن وزير الداخلية، مرورا بتجاذبات الحكومة والنواب، وانتهاء بقنبلة الضرائب التي تم إبطالها قبل أن تنفجر في الشارع في اللحظة الأخيرة، كانت الأضواء مسلطة على أبطال تلك العمليات أكثر من “الأزمات” ذاتها؛ وزير الداخلية، مدير الأمن العام، الدرك، وزير المالية، وزير الإعلام، رئيس مجلس النواب، وقبل كل هؤلاء رئيس الوزراء د. هاني الملقي.
وكان السؤال الذي تمحورت حوله السجالات الوطنية هو: هل المشكلة في الأشخاص، أم في آليات العمل والسياسات؟
الرأي العام بطبيعته يميل إلى توجيه اللوم إلى المسؤولين بشكل مباشر وشخصي أيضا. فبدا الحل برأي الكثيرين في إقالة أو استقالة بعض المسؤولين. لكن هذا لا يمثل سوى وجه واحد من المشكلة، ولا يعطي توصيفا شاملا وعميقا لها، وقد سبق اختباره عدة مرات، من دون أن تتبدل النتائج.
الأكيد أن كفاءة الأفراد “المسؤولين” تؤثر إلى حد كبير في الأداء المؤسسي. لكن هذه المرة أو المرات تحديدا، كانت الأزمة ظاهرة بشكل أكبر في المؤسسية نفسها. فقد بدت ضعيفة وهشة إلى درجة لم نكن نتوقعها، سواء كان ذلك بين مراكزها الرئيسة أو داخل أروقة الحكومة.
وبدا واضحا في رسالة جلالة الملك لمدير الأمن العام الجديد، أول من أمس، أن هذه القضية تؤرق جلالته إلى حد كبير. ولهذا كانت التوجيهات الملكية بهذا الخصوص حاضرة في كل فقرة من فقرات الرسالة.
يذهل المرء عندما يكتشف أن انعدام التنسيق بين “أركان” المنظومة الأمنية كان ضعيفا إلى هذا الحد في أحداث الكرك، وأن مطبخ الحكومة الاقتصادي لا يجتمع إلا في مناسبات نادرة. يذهب رئيس الوزراء ووزير ماليته إلى مجلس النواب ليطرحا حزمة ضرائب من العيار الثقيل، بعد ساعات على عودة الملك إلى البلاد. جلسة “مالية النواب” الاستثنائية تتحول إلى هرج ومرج، أقرب إلى أجواء المضافات منها إلى اجتماعات رفيعة يحضرها وزير المالية. وزاد الطين بلة تناقض التصريحات بين الوزير والرئيس، واضطرار الأخير إلى التدخل لنفي ما قيل عن نية الحكومة رفع سعر أسطوانة الغاز!
وقبل هذا وذاك، لغم المذكرة النيابية بحجب الثقة عن وزير الداخلية. حتى يوم توقيعها، كانت مجرد عبوة بدائية الصنع، لكن وبسبب سوء الإدارة والإهمال، وغياب التنسيق بين قطبي الحكومة والبرلمان، تحولت إلى قنبلة شديدة الانفجار، يخشى كل طرف أن تفلت من بين يديه وتنفجر تحت قبة البرلمان.
لم أسمع، وقد تابعت تطورات المذكرة منذ ولادتها، أن اجتماعا على مستوى متقدم عقد لمناقشتها، إلا بعد عودة جلالة الملك.
لقد كان محبطا بحق أن الجميع وقفوا عاجزين عن التحرك لاحتواء التداعيات، بانتظار عودة جلالته، ليتولى بنفسه تفكيك القنابل التي صنعتها أيدي مسؤولين معتبرين في الدولة.
على بعض المستويات، كالإعلام مثلا، بدأت جهات مرجعية في الدولة معالجة الاختلالات التي ظهرت في المنظومة الرسمية. وعلى المستوى الأمني، بدأ الملك مداخلات جراحية لضبط الأداء، بعد ليلة طويلة قضاها في غرفة العمليات “مركز الأزمات”.
يقال إن الحكومة في طور المراجعة و”التعديل”. وماكينة التنسيق بين رئاسة النواب والحكومة بدأت تشتغل. لكن على أهمية ذلك كله، ثمة حاجة لنظرة من فوق على أداء جميع المؤسسات، لوقف التدهور في المؤسسية، وتفعيل آليات التنسيق والعمل. وهذا يتطلب جهودا كبيرة، وتغييرات جوهرية في قواعد العمل.