إلى أن تكتمل التحقيقات، وتنجلي كامل عناصر الصورة المتعلقة بما جرى في مدينة الكرك، تشير كل المعطيات المتاحة إلى أننا كنا بصدد عمل إرهابي وقع، على الأرجح، خارج المكان الحقيقي الذي كان هذا العمل الدموي يستهدفه، وربما خارج التوقيت الزمني الذي كان مقرراً لتنفيذ ما يرجح أنه كان عملاً أكبر؛ أي إن الإرهابيين أكرهوا على القيام بعمليتهم الوضيعة هذه، استباقاً لانكشافهم فجأة.
ولم يكن هذا العمل الارهابي مفاجئاً لأحد، وإنما كانت المفاجأة أن يقع في الكرك، المدينة غير الحدودية، البعيدة عن الأضواء الإعلامية. إذ يفضل الإرهاب، في العادة، اختيار الأماكن القريبة من عدسات المصورين ومقرات المحطات التلفزيونية، لخلق أعلى قدر من الإثارة، وجلب أقصى ما يمكن من الدعاية لنفسه، خصوصاً أن الميدان الإعلامي أحد أهم الميادين التي طالما برع الإرهابيون فيها؛ الأمر الذي يعزز الافتراض بأن الموقع المستهدف يقع في مكان آخر.
وحين نقول إن هذا العمل لم يكن مفاجئاً، فذلك ليس فقط لأن الأردن مستهدف كونه جزءا من التحالف الدولي ضد الإرهاب، ولا لأن التهديدات ظلت متواترة طوال الوقت فحسب، وإنما أيضا لأن هذه الرقعة الجغرافية الآمنة محاطة، منذ عدة سنوات، ببحر من النيران المتأججة، التي وصل شواظها إلى مطارح بعيدة، بما في ذلك أوروبا، ناهيك عن الجوار الإقليمي الواسع، الأمر الذي يجعل احتفاظ الأردن بكل هذا القدر من الأمن والاستقرار بمثابة معجزة حقيقية، تدعو إلى الهدوء والاطمئنان.
ومع أن دما غزيراً تم سفكه في الكرك، وكانت الكلفة البشرية باهظة بالمعايير الأردنية من شهداء قوات الأمن والمواطنين، إلا أن النتيجة أتت على النحو المتوقع هذه المرة؛ إذ تجلت من جديد متانة الوحدة الوطنية، وعبرت الدولة هذا الامتحان بنجاح مؤكد، لا بد من تعظيمه والبناء عليه، من خلال القيام ببعض المراجعات الأمنية المطلوبة من دون تأخير، وسد بعض الثغرات المكتشفة، لعل ذلك يساهم في تعلية الجدار الاجتماعي السياسي الأمني، والحافظ على نعمة السلام الداخلي بجدارة وكفاءة واقتدار.
وفي معمعان هذا الاختبار الذي جرى في الكرك، حيث أصلب القوى الأهلية الرديفة لمؤسسات الدولة، خسر الإرهاب جولة جديدة مضافة إلى سلسلة طويلة من الخسائر المماثلة، وقعت في غضون السنوات القليلة الماضية، وفي أكثر من مكان واحد؛ الأمر الذي يظهر كم كان هذا العمل الإرهابي طائشاً، وكم كانت تجربته مع الأردنيين خاسرة بالمطلق، قياساً إلى ما تمكنت هذه الظاهرة السوداء من تحقيقه في العديد من الدول التي تفوق الأردن موارد بشرية واقتصادية ومالية وعسكرية.
ولعل ردود الأفعال الواسعة التي عبرت عنها مختلف الأوساط الحزبية والنقابية والاجتماعية، استنكاراً وشجباً لهذه الفعلة الإجرامية، أوضحت بما لا يدع مجالاً للشك أن المجتمع، بسائر أطيافه السياسية، موحد مع الدولة من دون أي تحفظ؛ مع رمزيتها ومع أجهزتها الساهرة على أمن المجتمع واستقراره، وهو الأمر الذي من شأنه أن يحقق مكسباً مضاعفاً لسمعة الأردن وشعبه، وأن يزيد من أهليته ومن حيوية دوره في الحرب ضد آفة الإرهاب التي ما تزال قادرة على الضرب في المحيط المجاور.
وعليه، فإنه يمكن النظر إلى ما حدث في الكرك على أنه كان بمثابة اختبار جرى على وجه السرعة، سقطت فيه خلية إرهابية نائمة بالضربة القاضية، من المحتمل أنها كانت تخطط لعمل إرهابي أشد خطورة. فيما تجلت، في المقابل، صورة بلد لم تغمض له عين في زمن العواصف العاتية، قد تتم مفاجأته من هنا ومن هناك مرة إثر مرة، إلا أنه سرعان ما يقوم ويأخذ بزمام المبادرة، تماماً على نحو ما حدث في إربد والبقعة وغيرهما سابقاً، ناهيك عن “الركبان” على الحدود الشمالية.
وما يبعث على الاعتزاز حقاً، أنه فيما كانت السلطات المعنية تقوم بواجبها في قلعة الكرك، كانت الحياة في سائر أنحاء البلد، مدنه وأريافه وبواديه ومخيماته، تسير على خير ما يرام، من غير تهيب أو اضطراب قد يسفر عنه تعرض الأمن لهزة طارئة. وهو ما يؤكد ثقة الناس العميقة بجاهزية المؤسسات المعنية، واطمئنانهم الشديد إلى صلابة روح وطنية لا تكسرها مثل هذه الخضات الصغيرة.