المحنة السورية كشفت زيف قيم العصر ومبادئه، وعرّت الفوارق الوهمية بين غرب أميركي – أوروبي يحاضر بالديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان، لكنّه يمجّد القوة ويحصّنها ويجاملها مهما عتت، وبين شرق روسي – صيني لا يؤمن بغير القوّة ولا يدّعي احتراماً لأي حريات أو حقوق، بل إن قاموسه السياسي يجهل شيئاً اسمه الكرامة الإنسانية. استعاد العالمان/ المعسكران ترسانات الأفكار الغريزية لتبرير أبشع الجرائم – جثث الأطفال المتروكة في الشوارع، تدمير العمران، القصف بالكيماوي والفوسفوري والعنقودي والارتجاجي، إقفال المستشفيات والمدارس، حصارات التجويع، اقتلاع السكان من مواطنهم وبيوتهم بإخلاء المدن والبلدات، إطلاق النار على النازحين أو اقتياد آلاف منهم الى مصائر لم تعد مجهولة… – وجعلها مجرد جرائم عادية.
مأساة حلب هي مأساة كل متر مربّع في سورية. ولن يدرك العرب والعالم ما يعنيه انكسار شعب أمام الديكتاتور، وخروج هذا الديكتاتور منتصراً مستقوياً كأنه كان على حق في كل ما ارتكبه، لن يدركوا إلا بعد فوات الأوان، على رغم أن الأوان فات منذ زمن. والشعب هنا، ليس الفصائل المسلّحة التي استدرجها هذا الديكتاتور الى منازلة حربية مع روسيا وإيران، وإنما هو عموم السوريين: الذين فرّوا من الموت المحتّم ويعيشون في خيام اللجوء وما تيسر لهم من ملاذات، والذين بقوا لاجئين مكمّمي الأفواه في وطنهم، وحتى الذين يوالون النظام ولا يقرّون بنهجه الذي دمّر البلد وأضعفه ووضع مستقبله في مهب الرياح. ذلك الانكسار هو للجميع، لأنه انكسار لسورية، وكل السوابق أثبتت أن اندلاع أي اقتتال داخلي هزيمة تاريخية للطرفَين حتى لو انتصر أحدهما في نهاية المطاف، وهذه النهاية لا تلوح اليوم على رغم منعطف حلب، ولن تلوح غداً، ولا بعد غد عندما يعتقد «المنتصرون» – النظام والروس والإيرانيون – أن الظرف بات مواتياً لتحاصص المكاسب.
ثمة ديكتاتوريون كثرٌ داسوا، مثل بشار الأسد، إرادات شعوبهم وحكموا متحالفين أولاً وأخيراً مع خوف شعوبهم من بطشهم، ومعتمدين دائماً شعارات جوفاء و»وطنية» مخاتلة لتغطية وحشية الأجهزة والأزلام. لكنه اختلف عنهم جميعاً بأنه لم يتردّد في تدمير كبرى الحواضر والمدن، وبأنه يفاخر بالتخلّص من نصف شعبه، وبأنه استخدم ورقة الإرهاب ذهاباً الى ممارسة نفوذ إقليمي وإياباً لإقحام العالم في حرب على هذا الإرهاب وإنقاذ نظامه بالمفاضلة بينه وبين «داعش»، فتكون الغلبة للسيئ على الأسوأ الذي هو أساساً من صنعه. بل اختلف الأسد أيضاً بأنه خدع العالم، وارتضى العالم الانخداع، بأن الدولة ومؤسساتها، بمن فيها الجيش، لا تزال موجودةً في كنفه ومصونةً برعايته، علماً أنه لم يبقَ من الجيش والأمن سوى ربعهما وأن النظام عوّض النقص بميليشيات محلية وأخرى إيرانية الولاء ومتعدّدة الجنسية. واختلف هذا الديكتاتور خصوصاً في استيراد احتلالَين خارجيَّين والتعاقد معهما لجعل سورية حقل تجارب لأسلحة الدمار الشامل الروسية ولأقذر القنابل المذهبية التي استعاضت بها طهران عن قنبلتها النووية المؤجّلة… لذلك، ففي مقابل مَن قال طوال سنوات أنه نظام مجرم وتجب محاسبته ومعاقبته، أصبح هناك الآن مَن يستند الى معركة حلب ليقول أن أهم نجاحات هذا النظام يكمن تحديداً في جلب الإرهاب وآلات القتل الروسية والإيرانية ليعيد فرض نفسه على المجتمع الدولي.
المزيد من «الانتصارات» لا يعني للأسد ونظامه سوى المزيد من الاستهتار السابق نفسه مع شعب بات أقلّ عدداً وأسهل اقتياداً، بل لا يعني أبداً الذهاب الى مفاوضات على حلٍّ سياسي، فقد أحبط كل مشاريع وقف إطلاق النار بما فيها تلك التي وقّع عليها الروس، لئلا يضطر الى تفاوضٍ «جدّي» على «انتقالٍ سياسي»، بل إنه عمل منذ البداية على أن الأزمة تُحسم عسكرياً أو لا تُحسم أبداً، ولو أراد مساراً آخر لما رفض الإنصات الى المتظاهرين السلميين ولما راح يتصيّد النشطاء المدنيين بالقتل المباشر أو بالخطف ثم القتل تحت التعذيب. هذا حاكمٌ لا يتوقع من مواليه ومعارضيه سوى تبجيل أحذية الرعاع و»الشبّيحة» الذين يبطشون باسمه ومن أجله، ولا يتصوّر «شركاء» في الحكم بل «أجراء» مطواعين يحكمهم الخوف من «شبّيحته». وإذ تلتقي غطرسته مع غطرسة حليفيه الروسي والإيراني، فإن أيّاً منهم ليس مستعدّاً للاعتراف بأن الانتصارات تقرّب «يوم الحساب»، لذا فهم يفضّلون تأجيله لأن المكاسب لا تزال أقلّ بكثير من المسؤوليات والواجبات.
أما المزيد من الهزائم والانحسار للفصائل المقاتلة فهو انتكاسة قاسية للمعارضين الوطنيين بكل انتماءاتهم واتجاهاتهم، مَن انتظم منهم في «الائتلاف» أو في «منصة القاهرة»، إذ يلمس هؤلاء جميعاً أنهم خُذلوا سواء بتغليب الحسم العسكري أو بإخضاع أي تسوية سياسية لميزان قوى عسكرية تسعى الى تحاصص الحكم لا الى مشروع إصلاحي حقيقي. لكن يكاد يكون هناك إجماع على أن الهزائم ستدفع المقاتلين الى التطرّف، مدفوعين أولاً ببقاء الأسد كعنوان لفشل قضيتهم، وثانياً بعداءات ثلاثة مستحكمة ضدّ روسيا التي تماهت مع النظام بكل ممارساته الوحشية، وضدّ إيران وميليشياتها وأجندتها المذهبية، وضدّ أميركا التي يعتبرون أنها قادتهم الى الهزيمة إنْ بمنع الدعم عن «الجيش السوري الحر» وامتناعها عن معاقبة النظام على استخدامه السلاح الكيماوي أو بتسفيه مقاومتهم الإرهابيين أو بتعمّد غضّ النظر عن الاحتلالَين الروسي والإيراني…
وفي استشراف مرحلة «ما بعد حلب»، يستقرئ كثيرون تجارب أفغانستان والعراق والصومال وحتى مصر ومالي لتحديد توقّعاتهم، التي يرون فيها استمراراً للصراع بأنماطٍ شتّى من حرب العصابات والعمليات الانتحارية وربما تصدير الإرهاب أيضاً. والمؤكّد أن حتى هذا المآل المتطرّف سيعرف الأسد وحلفاؤه كيف يستثمرونه، إذ سبق لهم أن استفادوا من ضربات الإرهاب في أوروبا، وهناك حالياً تخوّفات من أن يستخدم الأسد والإيرانيون مجموعات إرهابية لابتزاز الأوروبيين سواء في إلغاء العقوبات المفروضة على النظام ومجرميه أو في استدراج مساعدات مالية. وفيما يدرس الاتحاد الأوروبي خياراته للتكيّف مع متغيّرات الأزمة واستباق أي احتمالات إرهابية، فإنه يلوّح بمرونة في تمويل إعادة الإعمار مقابل تسوية سياسية تنطوي على انتقال سياسي وإصلاحات اقتصادية، لكن الأسد وحلفاءه يريدون الأموال «من دون شروط مسبقة».
ليس وراء الاهتمام الأوروبي دافع أمني أو حرص على الحل السياسي فحسب، هناك أيضاً قلق من مؤشرات احتكار فرص الاستثمار المقبلة في سورية ما بعد الحرب. فعلى رغم أن الجميع يقول أن حلب ليست نهاية الصراع، إلا أنهم يتصرّفون كأن تقارب دونالد ترامب وفلاديمير بوتين سيضع حدّاً للحرب ولو من دون إقامة سلام. لذلك شرعت روسيا تُظهر ملامح استراتيجية بزنسية تكاد تصادر مختلف القطاعات، وبعدما كان جلّ تركيزها على مبيعات الأسلحة كشفت روسيا، خلال زيارة نائب رئيس الوزراء ديمتري راغوزين دمشق (22/11/2016)، اهتماماً مدروساً بإبرام اتفاقات مع حكومة النظام تعطيها أفضلية في التبادل التجاري وتأهيل البنية التحتية لقطاعات النفط والغاز والكهرباء والمواصلات وغيرها، وللتمهيد لذلك وُقِّعت اتفاقات أولية. هذا يمنح موسكو دوراً مرجعياً في تحديد الأطراف المرشحة للمشاركة في تنفيذ أي «خطة مارشال» يمكن أن تُقترح لاحقاً لإنهاض الاقتصاد السوري. وفي هذا السياق، سجّلت الصين أخيراً حضورها بمباشرة إنشاء عدد من الشركات والاستعداد لتأسيس معامل، بعدما قدّمت للجيش النظامي منظومة لتحديد مراكز إطلاق القذائف والصواريخ أثبتت فاعليتها في الغوطة الشرقية.
في المقابل، تنصبّ الأجندة الإيرانية على «تشييع» اختراقي للبيئة الجغرافية والسكانية المحيطة بدمشق عبر شراء كثيف للعقارات بالترغيب والترهيب وبالاستحواذ على هندسة التركيبة الديموغرافية، بحيث يكون وجودها على الأرض مطوّقاً العاصمة وأي حكومة فيها، إضافة الى تواصل له مع لبنان، وحصلت إيران أخيراً على 40 في المئة من أسهم شركة اتصالات جديدة من دون أن تدفع شيئاً، بل نالت حصّتها لقاء خط الائتمان الذي اشترطته لقاء قرض ببليون دولار قدّمته طهران سابقاً.