زيد الرفاعي إذ يكرّم !!

عروبة الإخباري- كتب سلطان الحطاب  

 أعجبتني الفكرة ولم يعجبني الترتيب الذي جرى في تكريم مجموعة من السيدات والسادة الراحلين والاحياء ممن شاركوا في مسيرة المئوية الاولى من عمر الدولة الاردنية كل في موقعه ، وان كنت اتمنى لو وزّع المكرمون الى قطاعات حسب مجالاتهم، فلا يُخلط السياسيون بالفنانين او الاداريون بالاقتصاديين ورجال العمل العام، ولكن ذلك قد حدث وكان في الخلاصة جيداً لأنه اقرار وعرفان لهذه المجموعة وغيرها ممن لم ينادى عليهم للتكريم بالفضل، وخاصة اولئك الذين كرموهم احياء إذ أن تكريم الحيّ على عمله افضل من تكريمه بعد رحيله..

 لفت انتباهي في التكريم ايضاً اختلاط القديم منذ بدايات التأسيس بالحديث الذي ما زال قائماً، وكأن المائة سنة جيل واحد، وقد كان يمكن فصل البدايات او منتصف القرن عن النصف الآخر للتمييز بين من كانوا في البدايات وبين من أتموا بعدهم..

 ما توقفت عنده من المكرمين شخصيتين لهما بصمات في مسيرة الاردن في المئوية، وهما “رئيس الوزراء توفيق ابو الهدى” الذي تولى رئاسة الحكومة (14) مرة ولفترات طويلة وفي مراحل مهمة وحساسة جاءت قبل نكبة 1948 وتحملت حكومته مسؤوليات ضخمة في القضية الفلسطينية.

 كان توفيق ابو الهدى الذي رحل في ظروف غامضة ما زالت مطوية شخصية كارزماتية مهابة وقوية، وكان الامير المؤسس قبل اعلان الاردن مملكة وبعد الاعلان يحترمه ويقدر عمله، ويُقال ان الامير قال لمجالسيه ذات يوم:” أنني سأقوم وأغير ملابسي لأنني سأستقبل الباشا” ويقصد توفيق ابو الهدى، كاشفا عن مدى الاحترام الذي يوليه له.. ولا مجال للسرد والتفصيل عن حياة ابو الهدى، ولا حتى عن رحيله، واترك ذلك للباحثين الذين قد يعثرون على بعض أوراقه الخاصة التي يقال انها رحلت او اختفت وبالتالي اختفى معها جزء من تاريخ الرجل..

 أما الشخصية الثانية الهامة في اعتقادي فهي شخصية “رئيس الوزراء زيد الرفاعي” التي كانت قد تركت بصمات واثراً.. ومع تقدم السيد زيد الرفاعي اطال الله في عمره في السن مواليد 1936، إلا انه بقي يُشار اليه ويُكلف بأدوار مهمة، وظل في الواجهة رغم اعتزاله السياسة في رسالة وجهها لجلالة الملك عبدالله الثاني واعلنها عام 2019 ، وقد كلف السيد زيد الرفاعي بإعادة النظر في جوانب من القضاء وبتكليف ملكي..

 بقى زيد الرفاعي شخصية سياسية مميزة كلف بالوزارة أربع مرات ورئيس مجلس الأعيان من الثالث عشر حتى العشرين، واكب تطورات القضية الفلسطينية في معظم مراحلها ، ولم يكن زيد في كل مواقفه يهرب من الاجابة على اسئلتها، فقد ظل الاردن بالنسبة له اولاً،  وظلت الاجابات تخدم المصالح الاردنية ، لأن الرئيس الرفاعي ظل يؤمن ان منصبه وكل ما جرى توليته له انما هو لخدمة المصالح الاردنية التي لم يخرج عن خدمتها لحظة واحدة..

 كان زيد الرفاعي خلافياً للذين يرون فيه ذلك ، ولم يكن عند الاخرين كذلك، بل كان هؤلاء الاخرين وهم الاغلبية يرون فيه شخصية صلبة قوية لا تجامل على حساب المصلحة الوطنية..

 لم يكن الرفاعي يرى في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية خلاصا ولم يكن يسلم بسهولة عن مسؤولياتها التي تدخل في الاطار الاردني، ولذلك كان له موقف من اوسلو عبّر عنه في اكثر من مناسبة، وظل يرى ان الطريقة التي تم فيها الاعلان والموقف الاردني منه كان يعوزه عملا مختلفا ..

شهدت حكومات زيد الرفاعي العديدة جدلاً وخاصة حكومته الاخيرة نهاية الثمانينيات 27/4/1989، والتي شهدت مؤامرات واضحة استهدفت استقرار وامن الاردن، حين كانت الادارة الامريكية في زمن الرئيس ريغان تريد من الاردن مواقف اخرى، وحين كان الاردن في زمن حكومة الرفاعي يُعبّر عن مصالحه وعلاقاته العربية بطريقة اخرى.. ولذا كانت اضطرابات معان عام 1989 والتي تباينت الاراء في اسبابها ودوافعها وحتى قراءتها .. وقد دفع الرفاعي ثمناً لذلك وانسحب من الحياة العامة لسنوات دون ان يعلق او حتى يدافع عن نفسه، لانه كان يرى في ذلك خدمة للملك الحسين الراحل الذي كانت تربطه به علاقات فوق عادية، وكان يرى ضرورة ان يعطي الملك مساحات كافية ليتحرك بسرعة في وجه ردة الفعل القوية عليه اواخر الثمانينات ، حيث استهدف الاردن باكثر من طريقة ومرة لتطويعه بالشكل المطلوب ولمعاقبته على ما انجز عربيا حين كان  احد رواد بناء مجلس التعاون العربي الذي لم يرض بعض الاطراف العربية ، فكادوا  لحكومته وأوقعوها وارتكبوا الفتنة تحت مسميات عديدة ..

لقد شهدت الاردن اضطرابات بدأت في معان وشملت مدن اردنية عديدة ، وكانت هناك اصابع خارجية لها صدى في الداخل وقعت ضمن تلك الصفقة، لدرجة ان احد السياسيين علق لي قائلا:” تصور حتى الكاوتشوك الذي جرى حرقه في معان تم نقله من عمان” وان تلك الاحداث جاءت وقد عبر وزير الخارجية الامريكية جورج  شولتز عن غضبه من المواقف الاردنية ، ورفض الاردن تبني ادوار وظيفية ارادها الامريكيون وعبر عنها شولتز في مطار عمان حين زيارته وحين لقائه الغاضب مع الملك الحسين والمتعلق بدور الاردن، وفهم الاردن لخطوة فك الارتباط وتمثيل منظمة التحرير الفلسطينية وما هو المطلوب منه امريكيا في مواجهة الانتفاضة الفلسطينية الاولى التي امتدت لتشمل الاراضي الاردنية قبل ان يعلن الاردن خطوة فك الارتباط في محاولة منه لدرء المزيد من المواقف والاجراءات التي استهدفت امنه..

 في كل تلك المنعطفات كان زيد الرفاعي يعبّر عن مواقف واضحة قد يكون الجمهور لم يفهمها سياقها العام حين تولد الغضب ووقفت احداث الشغب التي استغلها البعض ودعمها في المدن الاردنية..

 كنتم ارقب اداء حكومة زيد الرفاعي التي لم تكن مرتاحه بما كانت تطرحه الانتفاضة الفلسطينية الاولى في بيانها العاشر الذي استفز الاردن وحمّله مسؤولية لا يتحملها، وفي ذلك الحين استدعى زيد الرفاعي ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في عمان الجنرال عبد الرزاق اليحيى واستفسر منه عن ذلك وقد استفز عبد الرازق اليحيى في إجابته زيد الرفاعي  حين فسر دوافع الانتفاضة وانها ليست “فطرية” او لا احد خلفها كما قال زيد الرفاعي، وانما خلفها قيادة المنظمة في تونس و ابو جهاد خليل الوزير تحديدا، وهو الامر الذي لم يقنع زيد الرفاعي وراح يطرح المزيد من الاسئلة ..

كنت ارى ذلك في اجتماع لرؤساء تحرير الصحف الاردنيه وقد كنت واحدا منهم، حيث توليت رئاسة تحرير جريدة “صوت الشعب” التي كانت تعود ملكيتها للحكومة، وكان الفضل في قرار تعييني رئيسا للتحرير فيها زيد الرفاعي،حيث كانت الصحف تعيش الحالة التي ولدتها لجنة الامن الاقتصادي إثر ما اصاب بنك البتراء، وكذلك حالة امنية إثر احداث جامعة اليرموك التي سبب تغييرات في رؤساء تحرير الصحف الاردنيه اذ لم يكن يعجب زيد الرفاعي تلك الشطحات التي يقف وراءها بعض الصحفيين في تفسيراتهم للاحداث، وحيث كان الرئيس الرفاعي يرى أن تلك الاجتهادات تتعارض مع المصالح الاردنية..

 يسجل للرئيس الرفاعي اتساع افق تفكيره وقدرته على المبادرات واتخاذ القرارات، فقد حدث في زمنه مشاريع مشتركه خاصة مع سوريا، ولم يكن من رؤساء الوزراء الذين اتهمهم نظام الاسد بالتآمر ضده، وقد أقر الملك الحسين بذلك حين سمي اثنين من رؤساء وزرائه، وكأنه يؤكد ما ذهب اليه الاسد ليبقى زيد الرفاعي الذي كان يحرص على علاقات مميزة مع سوريا خارج اطار اي اتهام ، فقد تعمقت العلاقات الاردنية السورية في فترة توليه وكان قد انحاز الى جانب سوريا في صراعها مع العراق حيث كان النظامان السوري والعراقي في خلافات ملموسة جعلت صدام حسين يضيق ذرعا بمواقف زيد الرفاعي، حين قال لنا وكنّا وفداً من رؤساء تحرير الصحف الاردنية نودعه: ” ابلغو تحياتي للملك وللشعب الاردني اما الحكومات هي متغيرة” وقد فهمنا من ذلك ملاحظته على حكومة السيد زيد الرفاعي التي كانت مع المصالحة العراقية السورية والخروج من الانقسام والصراع…

 وكان الرفاعي يرى ان هناك امكانية لاقامة علاقات تكاملية في عالمنا العربي، افضلها وأولها مع سوريا والتي أثمر معها المشروع المشترك (سد الوحدة) الذي تعطل بعد ذلك لأسباب مختلفة..

 رغم زيارة رئيس الوزراء عبد الرؤوف الكسم الى عمان و رغم الدور الذي لعبه الاردن في تقريب وجهات النظر العراقية السورية في لقاء (الاسد وصدام) في منطقة المفرق قبل ان يعود الطرفان للانقلاب على ما انجز..

لم يؤمن زيد الرفاعي بالشعارات وظل يحذر منها، وظل يرى عمل الحكومات العربية جماعيا وبصورة متكاملة هو المدخل للوحدة التي كان يراها تكاملا وعملا مشتركا نافعا، وليس شعارات، ولهذا كان الرفاعي متحمسا لمجلس الوحدة الاقتصادية ودوره، ولمجلس التعاون العربي الذي انعقدت دورته الام في عمان زمن حكومته.. كما كان الرفاعي حريصا أن لا تقع تشققات في الصف العربي خاصة حين عقدت قمة الوفاق والاتفاق العربية في عمان وحملت اطراف عربية حكومة زيد الرفاعي بعض نتائجها..

ورغم ايمان زيد الرفاعي بالخطط الاقتصادية الخمسية وغيرها إل أن انهيار الدينار الأردني جاء في أواخر الثمانينيات من عهد حكومته التي رحلت ، وقد بدأ وكأنها وراء ذلك لكن الدارس بهدوء ودقة سيكتشف مسائل أخرى لا علاقة لها بما ذهب إليه الرئيس الرفاعي الذي ظل حريصا على علاقات عربية أردنية أعطت ثمارها خاصة مع دول الخليج لاحقاً.. وحتى مع المملكة العربية السعودية..

كان الرفاعي متحفظا على الدور الذي بدأ يلعبه “الاخوان المسلمون” في ظل اشتداد حركات الجهاد والمجاهدين في افغانستان، وكان يحس بحجم التحريض في الشارع وبدورهم وخطورته ولذا أقدم على تجميد وفصل أغلب رموزهم التي كانت تصدر عناصرها إلى افغانستان، وبالتالي كسب عداءهم لكنه في دوافعه كان يريد تأجيل زحفهم باسم الصحوة الاسلامية وتحييد الاردن عن الزج به في اتون معارك الجهاد في افغانستان، والتي وصلت إلى طريق مسدود أفضى لصناعات جهادية ومتطرفة أو جاءت القاعدة ثم بعد ذلك داعش..

ظل الرفاعي محافظا وصاحب مدرسة معروفة في السياسة متأثرا بدراسته في هارفرد ، وظل يرى التدريج في الاصلاح وبشكل مدروس وأن حرق المراحل سيودي بكل ما انجزه الاردن..

كما ظل الرفاعي وتفكيره ونهجه صالحا لكل المراحل، ولذا ومن هنا كان اهتمام الملك الراحل واهتمام الملك عبدالله الثاني بتجربته ووعيه، حيث كلفه باصلاح أطر القضاء ومهام أخرى عديدة لها علاقة بجوهر المواقف الأردنية وجسور التعاون العربي والتصور الأردني في التعاطي مع القضية الفلسطينية، الذي ظل زيد الرفاعي يعتقد أن للاردن الدور الأكبر من نصرتها وحتى تقديم الحل لها.. باعتبار الضفة الغربية كانت أرضا أردنية محتلة وأن صيغة قك الارتباط لم تكن مناسبة أو مخلصة..

زيد الرفاعي اليوم يتذكره الأردنيون تماما ويدركون رسوغ حكوماته وقدرتها على بناء جسور التعاون العربي، كما يتذكرون الرجل كرافعة قوية في السياسة الأردنية إلى جانب الملك الراحل الذي رأى فيه أي “زيد” رجل دولة من الطراز الرفيع..

شاهد أيضاً

مجلس الأعيان يقر مشروع قانون العفو العام

عروبة الإخباري – أقر مجلس الأعيان الخميس، مشروع قانون العفو العام لسنة 2024، ومشروع قانون …