لعل الورقة النقاشية السادسة التي أصدرها الملك عبد الله الثاني واحدة من أهم الأوراق ،والتي تصلح ان تكون نقطة انطلاق للعمل والبناء على الارض، وليس الحلقة الاخيرة للحديث. فقد تناولت الورقة ثمانية مواضيع رئيسية ،هي المعالم البارزة والفعالة في أي دولة حديثة. و في نفس الوقت فإن سلامة ادائها شرط من شروط الاستمرار والتنمية، واستعادة الثقة بين المواطن والادارة الحكومية.
أولاً: أن الدولة المدنية التي نتطلع الى تحقيقها ،هي دولة تحتكم الى الدستور وتطبق القانون على الجميع بالتساوي، وتقوم على المؤسسات وليس سلطة الافراد، وتعتمد نظام الفصل بين السلطات. وهي دولة قوامها التسامح والسلام والتعددية في المكونات والرأي، ولا تمييز بين مواطنيها بسبب العرق أو الاصل او الدين او الجنس، وتكفل الحريات للجميع. وهذا كلها مطالب جماهيرية وحزبية ونخبوية إصلاحية بامتياز، ولا تحتمل اية إضافة أو مزايدة.
ثانياً: ان سيادة القانون، إضافة إلى السلطة و الإدارة، فهي ثقافة وممارسة. والالتزام الرسمي بتطبيقه بعدالة ومساواة و نزاهة، دون تمييز ودون اي استثناء، هي المدخل الحقيقي لنجاح الاصلاح السياسي، والسلم الاجتماعي ،ولطمأنة المواطن وضمان حقوقه بعيدا عن التمييز والمحسوبية التي يعاني منها.
ثالثاً: أن الانفتاح تشريعا وثقافة وممارسة على التنوع والاختلاف داخل المجتمع ، ينبغي أن يكون مصدراً للإزدهار الثقافي والفكري والاقتصادي، بدلا من الإقصاء والحكم على الآخر. ان قبول حكم القانون والتنوع هو التعبير الحقيقي عن الانتماء الوطني، وليس اعلانات الولاء.
رابعاً: ضرورة بل حتمية الاصلاح والتحديث الإداري لأجهزة الدولة،ليس في البناء الهيكلي المتمثل في “فك” دائرة هنا و “تركيب” دائرة هناك ،و إنما في تحديث عقلية الموظف،.و وتأهيله لتطبيق القانون بنزاهة وشفافية، وعقل منفتح وضمير حي. انطلاقا من قناعته بدوره كخادم للوطن والمواطن وليس سيداً متحكماً في مصالح الناس. وأن إنجازات الإدارات ينبغي أن تخضع للتقييم، والأداء يخضع للقياس، وهذا جوهر المساءلة والتي بدونها لا تتحقق أية ديموقراطية.
خامساً: الخروج بالقضاء من أزمته الحالية المتفاقمة والمتمثلة في التهاون في تطبيق القانون وإطالة فترة التقاضي والمحاباة والتساهل، وبالتالي استفحال الجريمة والفساد اللذين يقوضان أسس المواطنة.
سادساً: أنه لابد من وضع حد نهائي للواسطة والمحسوبية والفساد المالي والاداري والقانوني، ليس باعتبارها سلوكيات مرفوضة أخلاقياً ووطنياً وانسانياً وحسب، بل لأنها امراض تنخر في جسم الدولة وتفتك بالتنمية بكل جوانبها وتبعثر جهود التعليم وتدفع الشباب إلى الاحباط واليأس والتطرف.
سابعاً: أن الشباب وهو المستقبل لأي بلد يستحق اهتماماً أكبر، ورؤية استراتيجية منفتحة على الحداثة والتغيير، ويستحق اعطاءه الفرصة الأكبر للتعلم والتعليم والتمكين من المهارات الحياتية ومن الثقة بوطنه ومن القدرة على الإنطلاق والإبداع والريادية والمشاركة في النشاطات كمواطن يؤمن بالتنوع والتعدد والمساواة ويقبل الفكر المستنير والفن الراقي ويرفض الفكر الظلامي المتطرف.
ثامناً: اعطاء الاعتبار لدساتير الممارسة أو مدونات السلوك. وهي مسألة بالغة الأهمية، وتفتقر إليها معظم مؤسساتنا وأوجه نشاطاتنا. وأهمية مدونة السلوك انها تغطي المساحة الرمادية بين القانون، و بين الحرية ، وبين المهنية والوطنية والانسانية. فالقانون لا يغطي كل التفاصيل المتعلقة بالسلوكيات المهنية، وبالحدود المالية والمسؤولية ،أو الأداء الضعيف وغير ذلك. إن سلوك القاضي يتطلب ضوابط تختلف عن سلوكيات المعلم والتي تختلف عن سلوكيات المحامي والطبيب وسلوكيات الحزب السياسي تختلف عن الجمعية الخيرية ولها ضوابط وطنية وسياسية واخلاقية صارمة.
نعم .الورقة السادسة تكاد لا تثير نقطة خلاف واحدة لشدة وضوحها وواقعيتها وصدقيتها وتمثيلها لمتطلبات الدولة العصرية. ولكن ماذا بعد؟ هل نبقى نتحدث عن الورقة لأيام وأسابيع وأشهر؟ نتغنى بها ولا نفعل شيئاً؟ نكتب عنها المقالات ،ونعقد حولها اللقاءات؟ ولا يتغير شيئا، كما كان الحال في الأوراق الخمس السابقة؟ وهل هي اوراق للنقاش اللفظي الكلامي ام للتطبيق؟
وهنا يمكن النظر في التوجهات العملية التالية التي تقع مسؤولية تنفيذها والمبادرة فيها على الحكومة وثم على مجلس الامة وثم على الأحزاب و المفكرين والمثقفين.
أولاً: أن “يتم تبني الورقة بعد إعادة صياغتها باعتبارها فصلا في ميثاق وطني جديد تلتزم فيه الحكومة ومجلس الامة والاحزاب.” وهذا يتطلب من الحكومة تشكيل لجنة مناسبة تشارك فيها الأحزاب السياسية لتضع الصياغة المطلوبة لتتقدم بها الى البرلمان لإقرار هذا الميثاق ليصبح ملزما للجميع.
ثانياً: تشكيل لجنة بقرار حكومي من وزارات التربية والتعليم والتعليم العالي والشباب والثقافة والاعلام والأوقاف والخبراء لوضع خطة عمل لترسيخ المفاهيم الواردة في الورقة ونعني بها الدولة المدنية وسيادة القانون والتنوع والمواطنة والمساءلة والشفافية والنزاهة في عقل وسلوكيات الشباب والمواطنين وفي المدرسة والجامعة والمعهد.
رابعاً: أن تقوم كل وزارة ومؤسسة وبقرار من الحكومة بوضع برنامج تنفيذي لتحقيق ما ورد في الورقة ويتناول أعمالها وإبرزها الاصلاح الاداري ومدونة السلوك ومتطلبات الادارة الحديثة ومعايير قياس الأداء.
خامساً: أن تضع كل من وزارة العدل والداخلية البرنامج اللازم لإصلاح القضاء وتحقيق سيادة القانون دون التفاف او مواربة او ترحيل، وتقدم برنامجها للجنة الملكية لاصلاح القضاء وللحكومة لاقراره بقرار من مجلس الوزراء.
سادساً: إنشاء لجنة مشتركة بين الحكومة وممثلين عن منظمات المجتمع المدني وبمشاركة إعلاميين ومثقفين وعلماء ومفكرين لوضع الخطوط الرئيسية للتواصل مع الجمهور بما يتعلق بتحقيق ما يتم اتخاذه من قرارات ولتوعية المواطن بدوره من خلال وسائط الإعلام والإتصال المختلفة.
إن الورقة السادسة فتحت المجال للتوافق الوطني على المسائل الواردة فيها، وعلى الحكومة ومجلس الامة ان يعتبر مثل هذا التوافق فرصة ذهبية للانطلاق العملي والتنفيذ ،بدعم من الجمهور، وليس بمجرد قرارإداري . فهل يشهد المستقبل تطابق القول الوارد في الورقة مع الفعل الذي ينتظر الحكومة والأحزاب و منظمات المجتمع المدني، اذا ملكت الارادة واستعدت للمسؤولية واستعانت بأهل العلم والفكر والخبرة؟. وبذا يمكن ان يتحقق للأردن ما يطمح اليه من نهوض واستقرار؟. ذلك هو التحدي. وعلى الحكومة أن تثبت أنها قادرة على أخذ زمام المبادرة.