ألا نستطيع أن نسأل الآن بعد أن ذاب الثلج وبان المرج: هل كان الربيع العربي الذي صفقنا له كثيراً، رغم مشروعيته وضرورته وعدالة قضاياه ومطالبه وتأخره في الانفجار، هل كان صناعة شعبية محلية، أم إنه كان صناعة شيطانية لأغراض خارجية مصلحية استعمارية لا علاقة لها أبداً بأحلام الناس وتطلعاتها، وبأن الشعوب التي تغنينا بقوتها وجبروتها أثبتت أنها أوهن من بيت العنكبوت في مواجهة شياطين العالم؟ كم كنا مخطئين عندما رددنا العبارة الشهيرة: « قوتان لا تـُقهران، قوة الله وقوة الشعب». لا شك في أن قوة الله لا تـُقهر أبداً، لكن الخطأ الفادح يتمثل في تشبيه قوة الشعب بقوة الله. شتان بين الثريا والثرى.
كم أشعر الآن بالشفقة على شعوبنا التي أعطيناها قوة خارقة، فتبين أننا حالمون ورومانسيون ومخدوعون بالنظرة الماركسية السخيفة لدور الشعب في حركة التاريخ. ولو كان كارل ماركس حياً الآن لربما أعاد النظر في كل نظرياته الطوباوية حول قوة الشعب ودوره في صنع التاريخ، ولربما اعترف بأنه كان رومانسياً أكثر من اللازم، خاصة على ضوء الاختراعات الاقتصادية والتكنولوجية والتواصلية الرهيبة التي باتت تتحكم بقطعان الشعوب، والتي تقف وراءها عقول أفراد استطاعوا أن يسيّروا مليارات الشعوب كما يسيّر الراعي قطيعه.
لا ننسى أن شاباً صغيراً يحمل جينات العبقرية استطاع أن يضع مليارات البشر على فلاشة يضعها في جيبه، أو في أصعب الأحوال على موبايل. ونقصد هنا مخترعي مواقع التواصل التي استطاع منتجوها أن يجمعوا العالم كله تحت خيمتها، ويتحكموا به بكبسة زر صغير. تعال يا ماركس وشاهد أين وصل العالم، وكيف بات يستطيع الفرد البطل الذي سخرت من إنجازاته في الماضي أن يفعل الأفاعيل بما كنت تسميه أنت بالجماهير «The Masses». تعال وشاهد كيف يستطيع بضعة أفراد من خلال شركاتهم العابرة للقارات أن يتحكموا بمصير مليارات الشعوب والحكومات. تعال وشاهد كيف تستطيع بضع وسائل إعلام تمتلكها بضع عائلات أن تدير وتتحكم بمليارات البشر من الأمريكيين والأوربيين المتحضرين، فما بالك بمليارات البشر البسطاء الذين لا يستطيعون بعد أن يفكوا الحرف في العالم الثالث.
لقد قال ماركس يوماً مقللاً من قوة نابليون في صناعة التاريخ: «لو لم يكن نابليون موجوداً وقتها، لصنع الشعب الفرنسي نابليوناً آخر ليقود تلك المرحلة التاريخية من تاريخ فرنسا».
بعبارة أخرى، فقد كان ماركس يعزو دائماً حركة التاريخ لا لقوة الأفراد والقادة، بل لقوة الشعب، فالشعوب، حسب ماركس، هي من تحدد مسار التاريخ وليس القادة، مهما بلغوا من قوة وعبقرية. لكنني الآن أجد نفسي متفقاً أكثر مع المفكر والفيلسوف الاسكتلندي توماس كارلايل الذي كان يسخر دائماً من قوة الشعوب، ويعزو حركة التاريخ وإنجازاته إلى عبقرية البطل الفرد.
لا أريد أن أذهب بعيداً إلى الغرب المتقدم الذي تديره جماعات وأفراد يعدون على أصابع اليد الواحدة، بل دعونا نتحدث قليلاً عن عالمنا التعيس الذي ظن أنه يستطيع التمرد على واقعه البائس وأنظمته الشيطانية، فاصطدم رأسه بحائط فولاذي هشم رأسه وأضلاعه. انظروا كيف تبخرت أحلام الشعوب بالتغيير في بلاد الربيع العربي، وباتت القطعان تحن إلى أيام الطغيان الخوالي، لأنها دفعت ثمناً لم تكن تتخيله أبداً، ولأنها حاولت أن تشق عصا الطاعة، وتثور على الرعاة المتحكمين بهذا العالم.
لقد أظهرت الأيام أن الشعوب بلا حول ولا قوة في مواجهة سادة العالم وأدواتهم الصغيرة التي تتحكم بالشعوب في بلادنا وغيرها. ماذا بقي من الثورة المصرية التي بحت حناجرنا ونحن نصفق لملايينها في ميدان التحرير؟ لقد استطاع المتحكمون بالعالم أن يستبدلوا لها حاكماً بآخر جعل المصريين الآن يتشوقون إلى الماضي الأليم. ما أضعف الشعوب في مواجهة الآلة الإعلامية الرهيبة التي استطاعت أن تلعب بالشعوب كرة قدم. بالأمس خرج الشعب كالسيل الجارف ليطرد طاغية من الحكم، وفي اليوم التالي خرج الشعب نفسه ليهلل ويطبل ويزمر لطاغية أفظع بنفس الحماسة. لماذا؟ لأن الشعوب أضعف بكثير من عبقرية الأفراد المتحكمين بهذا العالم إعلامياً واقتصادياً وثقافياً وسيكولوجياً والقادرين أن يلعبوا بالجماهير كما يلعب الأطفال بالدمى.
انظروا كيف استطاع المتحكمون بالعالم وأدواتهم المحلية أن يحولوا الثورة الليبية المزعومة إلى صراع قبلي وعقائدي كي يتفرغ المخططون لنهب الثروات الليبية. انظروا كيف عاد الشعب التونسي إلى عصر بات يحلم فيها بالرجوع إلى أحضان النظام الذي ثار عليه. انظروا كيف عاد الأفراد أنفسهم إلى اللعب بالشعب بدعم من أسيادهم الكبار الذين يتحكمون بالعالم. انظروا إلى الوضع السوري الذي صار عبرة لمن يعتبر. هل كان الشعب السوري يتوقع من المتحكمين بالعالم أن يسمحوا لأدواتهم الأسدية في سوريا أن تفعل بالسوريين ما فعلت؟ بالطبع لا. لكنهم سمحوا، وهاكم النتيجة. هل ما زال الرومانسيون الماركسيون يستطيعون الحديث عن قوة الشعب في سوريا وغيرها، أم إن حسبهم أن يشفقوا على وضع الشعب اللاجئ والنازح والمشرد والجائع والمعتقل والنازف والمتوسل؟ أيهما أقوى، الشعب السوري، أم الضباع المتصارعة على أرضه التي تريد أن تتقاسم أشلاءه وثرواته وأرضه كالروس والأمريكيين وغيرهم؟ لقد وصل الأمر بالسوريين أن يقبلوا بأي حل يحمي جلودهم حتى لو قسّم أرضهم، ونهب خيراتهم، ولعب بهم شطرنجاً. إنه الضعف الشعبي في أدنى درجاته أمام جبروت العملاقة الذين يتحكمون بالعالم.
سامحونا إن قلنا إن الشعوب مجرد فرائس مغلوبة على أمرها في غابات يسمونها مجازاً دولاً، وإن الوحوش آكلة اللحوم أقوى بعشرات المرات من الحيوانات آكلة العشب، وأن وحشاً واحداً لاحماً يستطيع أن يقضي أو يسيطر على ملايين الحيوانات العاشبة.
دعونا نعترف أن الراعي والكلب أقوى بمئات المرات من القطعان. دعونا نعترف أن الدولة العميقة في بلادنا استطاعت أن تعيد الشعوب إلى زريبة الطاعة راضية مرضية. دعونا نعترف أن راعياً ذكياً وكلباً شرساً يستطيعان أن يضبطا قطيعاً من ألوف الأغنام والماعز والأبقار والجواميس والدجاج.