عروبة الإخباري – بداية لا بد من التأكيد على ان اي قرار يعطى ،هكذا ،صفة “استراتيجي” ،لا يعني بالضروروة انه سليم. فكما ان هناك قرار استراتيجي صائب ،هناك قرار خاطئ بل وكارثي. كما ان انفراد الحكومة باتخاذ القرار دون القنوات الدستورية ،ودون مشورة العلماء والخبراء، فيه إضعاف لها وليس قوة، حتى لو كان التبرير انه قرار سياسي. فالسياسة والسيادة تحتاج العلم والمشورة والدستورية، ولا تتعارض معها. نقول ذلك في اطار اتفاقية الغاز الاسرائيلي، و قبلها اتفاقية المياه.
فقبل عدة أيام، وقعت شركة الكهرباء الوطنية ،وهي حكومية مئة بالمئة، اتفاقية ،لم تعلن تفاصيلها، مع شركة نوبل اينرجي، الامريكية تسجيلا، والاسرائيلية مساهمة و إدارة، لتزويد الاردن بالغاز الاسرائيلي اعتباراً من عام 2019 ..و بعد نشر الخبر في الصحف الاسرائيلية صدر بيان حول الموضوع ،وفيه الكثير من العموميات و التأكيدات حول أهمية الغاز بالنسبة لقطاع الطاقة في الاردن، دون الإشارة صراحة ان الغاز اسرائيلي،و من حقول متنازع عليها بين اسرائيل و فلسطين و لبنان و قبرص، ودون ان يشار إلى ان الكنيست كان قد اوقف حكومة نتنياهو عن السير في الاتفاقية لمدة سنتين حتى للتعامل مع عدد من النقاط لم يتم الكشف عنها.
وعلى ضوء الرفض الشعبي القوي للاتفاقية، بدأت الادارات في تصدير التقارير حول الموضوع وإعطائه الصفات الضخمة مثل الاستراتيجية والاقتصادية و الحيوية و التنوعية. وكالعادة راح البعض وبتشجيع من الشركة بالكتابة عن مزايا الاتفاقية وفائدتها المفترضة بالنسبة للأردن ،دون التعرض للسلبيات و دون الإهتمام بالرفض الشعبي لشراء الغاز من إسرائيل. والملفت للنظر ان البيان والاخبار والتصريحات المؤيدة لا تقوم على اسس علمية وموضوعية مؤكدة، بل غالباً ما تحتوي الكثير من التعميمات والاخطاء و الإفتراضات التي لا ينبغي ان تمر دون تصحيح او مراجعة. وهنا يمكن الاشارة الى النقاط التالية:
أولاً: ان توقيت التوقيع و مكانه كان فيه استغفال للمجتمع. فالبرلمان لم يكن قد استكمل اجراءاته القانونية ولم ينعقد بعد، والحكومة كانت برسم التشكيل، ومجلس الاعيان يعاد تشكيله ،وحادثة الاغتيال الآثمة للصحفي ناهض حتر تشغل الناس ، والمجتمع كله في حالة من الإنشغال والحيرة والإنزعاج .
ثانياً: ان توقيع الاتفاقية فيه مخالفة صريحة لروح الدستور والتي لا تجيز للحكومة (أو مؤسساتها) توقيع أي اتفاقية او معاهدة لها علاقة أو مساس بحقوق المواطنين أو يترتب على تنفيذها التزمات على الخزينة أو تمس بالسيادة الوطنية بشكل مباشرأو غير مباشر دون إجازتها من مجلس الأمة.إن اتفاقية الغاز تندرج تحت هذا المفهوم لأن الحكومة هي المالك والكفيل لشركة الكهرباء الوطنية وديون الشركة هي ديون على الحكومة باعتراف شركة الكهرباء الوطنية، و الغاز تتحكم فيه الحكومة الإسرائيلية. وكان و لا يزال من المفروض ان يعرض مشروع الاتفاقية على مجلس الأمة ليجيزها او يرفضها او يعدلها، خاصة وان البرلمان السابق لم يوافق عليها. وهذا تدعيم لموقف الحكومة وليس اضعافا له.
ثالثا: ان ميناء الغاز المسال قد حل مشكلة الغاز نهائيا، حيث يجري استيراد ما يقرب من 500 مليون قدم مكعب يوميا ،ويجري توليد 80% من الكهرباء من الغاز المسال، ويصدر الباقي الى مصر. اضافة الى ان شركة الغاز طلبت من الصناعات الاردنية التزود بالغاز المسال من خلال الربط على خط الغاز المصري سابقا. بمعنى انه لا توجد اي حاجة او مبرر أو ضرورة للغاز الاسرائيلي.
رابعا: تدعي شركة الكهرباء الوطنية ان الغاز سيوفر حوالي 300 مليون دولار سنويا على الخزينة لأن الغاز الاسرائيلي ارخص من الغاز المسال المستورد. وهذا قول غير صحيح ،وغير اكيد ،ويعتمد على تذبذب سوق النفط، ويقوم على افتراض ارقام لاسعار النفط (برنت) تتراوح بين 50 و 60 دولار للبرميل.
خامسا: تلمح الشركة ان الاتفاقية سوف تمنع الحكومة من زيادة التعرفة الكهربائية، وهو السلاح الذي يتم استعماله لتخويف المواطنين. ان معادلة التعرفة الكهربائية يشوبها كثير من الغموض و ربما الفوضى، فبينما كلفة الكيلو واط ساعة لا تتعدى (7) قروش باستعمال الغاز المسال فإن متوسط ما يدفعه المواطن (12) قرشاً للكيلو واط .ساعة.
سادسا: لا تذكر الشركة او الحكومة ان كل (3) دولارات يدفعها المواطن للغاز يذهب منها دولار للحكومة الاسرائيلية .اي ان الاتفاقية تعطي اسرائيل 340 مليون دولار سنوياً كعائدات .
سابعا: يقول البعض ان التعاون في مجال الطاقة والمياه ورد في معاهدة السلام. فهل يعني ذلك اعطاء اسرائيل الفرصة للتحكم في هذين المرفقين؟ وهل التزمت اسرائيل بالمعاهدة؟ أليس بناء الجدار العنصري الفاصل ، والتحفير في الأماكن المقدسة، والاستباحة للأقصى والتضييق على الفلسطينيين بهدف تهجيرهم بشكل غير مباشر وحصار غزة، ومصادرة الاراضي الفلسطينية ،بكل ما يؤدي اليه ذلك من توتر وعنف وخطر على الاردن، هو مخالفة صريحة للمعاهدة؟ و هل يجوز في مثل هذه الاتفاقيات اهمال الجانب السياسي بيساطة ؟.
ثامنا: مقابل هذا القرار الإستراتيجي الذي سيربط الأردن ، هل تعهدت اسرائيل باتفاقية صريحة بعدم التعرض و الإستباحة للاقصى والاماكن المقدسة التي هي تحت الوصاية الهاشمية؟ هل تعهدت اسرائيل بقيام دولة فلسطينية على الاراضي الفلسطينية وعدم تهجير الفلسطينيين باتجاه الاردن؟
تاسعا: هناك ايضا الاتفاقية السرية الخاصة بالمياه. و هناك “الإتفاقية التي ستأتي” لربط شبكة الكهرباء الوطنية بالشبكة الإسرائيلية إذا تم تنفيذ مشروع المحطة النووية “. و سوف يقال للشعب الأردني حينئذ: لماذا لا نصدر الكهرباء لإسرائيل مقابل الغاز الذي نستورده منها و نحقق مزيدا من التوفير في قطاع الطاقة ؟
هل يعقل و العالم يتجه إلى مزيد من مقاطعة إسرائيل كما هو في حركة ال BDS ،والمنطقة في حالة فوضى وعدم استقرار،و الملف الإسرائيلي الفلسطيني في أسوأ حال ، وعدم استعداد اسرائيل للالتزام بالقانون الدولي، وبالاتفاقيات والمعاهدات،هل يعقل أن نربط إقتصادنا بإسرائيل و في مفصلين رئيسيين ؟ و ان تصبح المياه والطاقة في الاردن تحت رحمة الضغوط و الخداعات الاسرائيلية؟ اين الرؤية الاستراتيجية الوطنية الحصيفة؟ لماذا يوضع قطاعا الطاقة والمياه تحت رحمة الابتزاز الاسرائيلي دون أية ضمانات معلنة ،وليس هناك حاجة لا لتبادل المياه ولا استيراد الغاز؟ ما الذي سيضيفه استيراد 40% من احتياج الاردن من الغاز من اسرائيل بكل الملابسات السياسية والاقتصادية و التعنت الإسرائيلي؟ في حين ان الغاز المسال يكفي وهناك فائض للتصدير؟
عاشراً: هل يعني تنويع مصادر الطاقة كما تقول الشركة (الحكومة) ان نذهب مباشرة الى اسرائيل؟ لماذا لم نذهب الى الجزائر إلى السعودية ،إلى قطر؟ لماذا لم نفسح المجال بشكل فعال للطاقة المتجددة بأشكالها المختلفة لان يتم التوسع فيها دون عقبات مصطنعة؟ لماذا لا يتم “التنويع من خلال استيراد الفحم” من اندونيسيا مثلا؟ و العالم و إسرائيل لم يستبعدوا الفحم من خليط الطاقة، و تكاليف الكهرباء من الفحم تعادل تكاليفه من الغاز ؟ لماذا لم تتحرك الحكومة لمساعدة الشركة الاستونية التي ستستخدم الصخر الزيتي الاردني لاستكمال متطلبات التمويل حتى تبدأ ببناء محطة الكهرباء باستطاعة 500 ميغاواط تفريبا لتنتهي في عام 2019 .
وأخيرا نحن نتفهم تماما الضغوط التي تمارسها اسرائيل من خلال الولايات المتحدة لتحقيق “مبدأ نتنياهو : السلام الاقتصادي قبل الحديث عن السلام السياسي”. و هو مبدأ يقوم على المكر و الخداع: ذلك ان ما يفكر به نتنياهو و اليمين الإسرائيلي ان الربط الاقتصادي المحكم مع الاردن وفلسطين ،سيتيح الفرصة لاسرائيل بصفتها الاقوى اقتصاديا وتكنولوجيا لممارسة الضغوط للوصول الى الاهداف السياسية التي تريدها. حيث “يصبح الخيار الوحيد المتاح: اما الاقتصاد واما السياسة “.إما الكهرباء والمياه و اما السكوت عن عدوانيات اسرائيل .إن قرار التشارك الإقتصادي مع اسرائيل في هذه المرحلة،و في أخطر قطاع و هو الطاقة يحمل مجازفات جسيمة و ليس في مصلحة المستقبل الوطني أبدا.