تتميز الإنتخاباتُ النيابية الأردنية، بما يتغلغلُ ويتفاعل ويتشابك فيها من عناصرَ ومدخلاتٍ ومخرجات. وكنتُ قلتُ وكتبتُ، في معرض تناولي «معضلة» الإنتخابات، أنك تضعُ في مفرمةِ اللحم لحماً، فتعطيك المفرمةُ لحماً، إلا في الإنتخابات النيابية عندنا في الأردن، اذْ تضع في المفرمةِ لحماً، فتعطيك المفرمة لحما تارة ونخالة تارة اخرى!
المدخلاتُ، في أكثر من دائرةٍ انتخابية، وفي اكثر من دورةٍ انتخابية، لا علاقةَ لها أحيانا بالمخرجات، فهي ليست من جنسِها ولا من لونِها ولا من عناصرها!
لقد ظلّ، هاجسُ «التدخل» وهو أول سمات الإنتخابات النيابية الأردنية، ملتصقاً بهذه الإنتخابات، الى الدرجة التي اقتضت تطميناتٍ مَلكيةٍ علنية، الى الرأي العام الأردني المتوجس من «جرّة الحبل»، قدمها جلالة الملكُ، حين أعلن أنّه يتعهد شخصيا، بكفالة نزاهة الإنتخاباتِ وانه يضمن عدمَ تزويرَها.
وفي هذا السياق كُتِبت آلافُ المقالاتِ وعُقدت مئاتُ الندواتِ ورُسمت مئاتُ الكاريكاتورات، التي تفضح المالَ السياسيَ، الذي هو السمةُ الثانيةُ التي تلتصقُ بالإنتخاباتِ النيابية الأردنية، مثل كاريكاتير: «كاشك يا وطن» المأخوذ من مسرحية غوار الطوشة: «كاسك يا وطن».
وثالثةُ الأثافي في «أحجية» الإنتخاباتِ، هو قانونُها!
لم تجرِ الإنتخاباتُ النيابيةُ الأردنية على قانون واحد، منذ أن استُؤنفت عام 1989. فقد لجأ «مركزُ القرار» الى تنويعاتٍ مختلفة، على قانون الصوت الواحد، الذي تم تحميله، زورا وبهتانا، آثامَ الإنتخابات وعيوبَها، إلى درجةِ أننا وصفنا الصيغَ المختلفةَ لقانونِ الصوتِ الواحد، بأنّها صيغٌ وضعها «مخاوي الشياطين».
استَخلصتُ من الحياة النيابية المشوهة، شعار «نريد مجالسَ نوابٍ لا مجالسَ للنواب» يحققون فيها مصالحهم ويجنون من وراء عضويتها، ملايين العطاءات وقرارات الإعفاءات من الضرائب والغرامات والرسوم والمخالفات وقرارات الموافقات على مشاريع وامتيازات خارج القانون وتعيينات زبونية واستثناءات لا حصر لها، مقابل الانخراط في طابور الإذعان للقوانين والقرارات التي تريدها الحكومات.
لقد احتدم، على امتداد ربعِ قرنٍ، جدلٌ عقيمٌ، انخرطت فيه الأحزابُ السياسيةُ والنخبُ والمشرعون والاعلامُ، حولَ مساوىء الصوت الواحد، بزعمِ خطورته على وحدةِ المجتمع، وإضْرارِه بنمو الحياة السياسية. ومثلا، وضعت جماعةُ الإخوان المسلمين شرطا لمعاودة مشاركتها في الإنتخابات النيابية، هو إلغاء الصوت الواحد.
وأغرق «مركزُ القرار» الأحزابَ في ورشة الإلهاء والمشاغلة والملاعبة الذكية هذه، وجذبهم الى المطالبة بما يمكنه، وما يريد تقديمه من تغييرات لفظية شكلية، في المظهر، على قانون الإنتخاب لمجلس النواب، قانون الصوت الواحد، دون تغيير فعلي في الجوهر، وقد ابتلع هؤلاء السّنارة بلا طُعْم! فوافقوا على قانون الإنتخاب الجديد، الذي أعتبروه مغادرةً لقانون الصوت الواحد، في حين انه قانون «الوحدة والصراع» داخل القائمة الإنتخابية الواحدة من جهة أخرى. إنّه على وجه التحديد قانونُ الصوت الواحد والدوائر الوهمية أيضا!
لقد كتبتُ مكررا أنّ المهمَ في كل معضلة الإنتخابات النيابية الأردنية ليس، ولم يكن، قانون الإنتخاب، بل نزاهة الانتخابات. من هنا جاءت دواعي الشعار الذي طرحته مبكرا والذي لاقى صدى واسعا وهو: «نزاهةُ الإنتخاباتِ أهمُّ من قانونِها». فما جدوى أن تضع القوى السياسيةُ المعارضةُ، او «لجنةُ الحوار الوطني»، صيغةً توافقيةً وطنيةً محكمةً، تتضمن مضامين أو مسودة قانون انتخاب، وفي التطبيق، يتم التلاعب بالإنتخابات؟
كانت الحكومات «تتدخل» في الإنتخابات، فتضع في صناديق المرشحين المحظيين أوراقا رسمية قانونية، موقعة من رؤساء اللجان المختصة، ثم دخل المال السياسي الأسود، عاملا مهما في النجاح، فأصبح مجلس النواب، نادياً شبه مغلق، لرجال المال والأعمال والمقاولات. وقد بينت دراسة نشرتها الصحافة الأردنية قبل أيام أنّ نسبة المقاولين ورجال المال والأعمال في مجلس النواب الأردني هي 68٪، علما ان النسبة المئوية المعروفة في العالم، تتراوح بين 10٪-15٪.
عن من سيدافع رجال المال:
عن العدالة الاجتماعية وعن مصالح ذوي الدخل المحدود؟
ام سيدافعون عن مصالح الشركات والمصانع والبنوك؟
ام سيدافعون عن قرارات الحكومات؟
لقد دخل الى مجلس النواب رجالٌ ليس خلفهم قوة دافعة، تتمثل في حزب سياسي كبير، وليس خلفهم دفع تجمعٍ عشائري، ولا دفع إنجازات علمية او أدبية، ولم يكن لهم دور في النضال الطويل من أجل الحريات العامة وحقوق المواطنين، ولم يسجل لهم أنهم شاركوا مع طارق بن زياد في فتح الأندلس، ولم يعهد عنهم أنهم شاركوا في معارك الدفاع عن القدس عام 1948، ولا شاركوا حتى في معركة الكرامة التي وقعت عام 1968.
قوة «الدفع» الوحيدة المتيسرة لهم هي قوة «الدفع» المالية، التي يفسدون بها ضمائر الناخبين الفقراء. ومعلوم أن هؤلاء «المستثمرين» إنما يتقدمون لخوض الإنتخابات النيابية بعقلية المستثمر الذي يستثمر في شركة مضمونة الأرباح التي قد تتجاوز 100000٪.
لقد تم الإلتفاف على رغبة جلالة الملك في حالات عديدة، أبرزها الإلتفاف على مطلب الملك في الورقة النقاشية الخامسة، وهو العمل من أجل الوصول الى «حكومة برلمانية»، وهو الأمر الذي يقتضي توفر شرط نزاهة الإنتخابات، فحصلنا على «برلمان حكومي» كما قال الباحث الدكتور أسامة تليلان في احدى مقالاته. لقد دعا الملك الى ان تتولى الكتلة الحزبية أو الإئتلاف النيابي ذو الأغلبية، أو ائتلاف الكتل النيابية، تشكيل الحكومات البرلمانية، في حين تتولى الأقلية النيابية مهامَ حكومة الظل.
وفي بنية مجلس النواب المقبل، فإن النخب التي «رمت» أسماءها في «بازار» الانتخابات، قد تراجعت الى الظل، لعدم سطوع «الضوء الأخضر» الضروري لها للإقدام على الترشح. ونخب أخرى توارت، لعدم قدرتها على المنافسة المالية. وأحجمت نخب أخرى بسبب استمرار وهج الضوء الأحمر امامها.
المتوقع أن يفوز في الانتخابات نحو 15-18 مرشحا من التحالف الوطني للإصلاح، بقيادة جبهة العمل الإسلامي، ذراع الاخوان المسلمين السياسي، من أصل 130 نائبا، وعودة نحو 50 نائبا سابقا، عدد منهم نحتاجه ونحترمه ونقدر نزاهته، وقد كانوا نجوما ساطعة وعقيقا نادرا في عقدٍ من الحجارة الكريمة المزورة. هؤلاء يحتاج المجتمع الى خبراتهم التي تعتبر ثروة وطنية.
ستجري الإنتخابات النيابية العامة على مستوى المملكة يوم 20 أيلول/ سبتمبر الجاري، والتحدي يتمثل في العمل من أجل أن تشهد مشاركة جماهرية أوسع من العزوف والقعود، ليخف تأثير المال السياسي ولتتوفر لمجلس النواب الجديد، شرعية تمثيل أعمق، خاصة وأن الشرعية السياسية قد توفرت بمشاركة الأحزاب الأردنية كافة.
إن النظام السياسي، الذي يجري الإنتخابات النيابية العامة في يوم واحد، في هذا الإقليم المضطرب الملتهب، هو نظام سياسي مستقر، واثق بنفسه وواثق من رشد شعبه. فأيُّ قوة جذبٍ أكبرُ من مؤشر الإستقرار الذي تقدمه الإنتخابات النيابية العامة للمستثمرين في العالم، خاصة وأن جذب الاستثمار هو أبرز أهداف الملك والحكومات؟