مصطفى كمال (أتاتورك) ورجب طيب أردوغان، شخصيتان متناقضتان في كل شيء، دخلا تاريخ تركيا الحديث من أوسع أبوابه، ويمارسان تأثيرهما بقوة في الحياة السياسية، الأول من قبره الذي دفن فيه منذ ما يقرب من قرن من الزمان، والثاني من القصر الرئاسي الذي ما زال يقيم فيه ويمسك من خلاله بمقاليد السلطة. لمصطفى كمال أتاتورك وجهان. الأول: يمثله القائد العسكري الفذ الذي تحوَّل إلى بطل قومي بعد أن تمكَّن من إلحاق الهزيمة بأعداء تركيا المهزومة في الحرب العالمية الأولى، وأنقذ الشعب التركي من الاحتلال الأجنبي ومن حالة التفكك والضياع والتشرذم التي كان عليها عقب انهيار الامبراطورية العثمانية. وهذا هو الوجه المحبَّب الذي يحظى بالإجماع ويتمتع باحترام الشعب التركي على اختلاف تياراته السياسية وتوجهاته الفكرية وطبقاته الاجتماعية.
والثاني: يمثله السياسي والأيديولوجي الذي أعلن سقوط الخلافة الإسلامية وأسَّس على أنقاضها دولة قومية علمانية حديثة، تفصل بين الدين والسياسة، وتدار من خلال مؤسسات وقوانين يغلب عليها الطابع الغربي، وقام بتحريم ارتداء الطربوش والعمامة أو استخدام الألقاب الدالة على الانتماءات المذهبية، وألغى المدارس الدينية والمحاكم الشرعية، وأزال التكايا والأضرحة، وألغى استخدام الحرف العربي في الكتابة وفرض استخدام الحرف اللاتيني… الخ. وهذا هو الوجه الذي كان وما يزال يثير الفرقة والانقسام والجدل بين عموم الأتراك.
استطاع مصطفى كمال أن يحكم تركيا لفترة طالت لما يقرب من خمسة عشر عاماً متواصلاً، تمكَّن خلالها من إحداث تغييرات جوهرية في بنية المجتمع التركي وفي نمط حياة الأتراك على مختلف الأصعدة السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية. ومع ذلك، فإن هذه التغييرات لم تحظَ دوماً بإجماع الشعب التركي وراحت تتآكل تدريجياً لأنها طمست بعداً رئيساً من أبعاد الهوية التركية راح يعبر عن نفسه كلما أتيحت الفرصة. لذا لم تتمكن الأتاتوركية من الصمود في تركيا إلا بدعم من المؤسسة العسكرية التي حرصت على التدخل في الحياة السياسية بصفة مستمرة لحماية تراث أتاتورك، ولم تتردد في القيام بأربعة انقلابات عسكرية في أعوام 1960 و1971 و1980 و1997. بعض هذه الانقلابات كان دموياً وعنيفاً وإقصائياً إلى أبعد الحدود، بينما كان بعضها الآخر «ناعماً» واكتفى بإظهار احتجاجه أو عدم رضاه عما يجري، شفاهة أو من خلال «مذكرة» مكتوبة، ليصبح في وضع يمكنه من الإطاحة بالحكومة القائمة ومن إدارة شؤون الدولة والمجتمع بنفسه أو من وراء حجاب. وعلى سبيل المثال، فقد أفضى انقلاب ١٩٦٠ إلى إعدام الرئيس عدنان مندريس واثنين من وزرائه، وإقالة أكثر من 200 جنرال وفصل بضعة آلاف من الضباط ومئات القضاة وأكثر من ألف أستاذ جامعي. وعلى إثر انقلاب عام ١٩٨٠ تم اعتقال أكثر من نصف مليون شخص، وصدرت أحكام بالإعدام على أكثر من 500 شخص، تمَّ تنفيذ الحكم بحق خمسين منهم، وفُصل ما يقرب من ٣٠ ألف موظف، وتم ترحيل حوالى ٣٠ ألف شخص خارج البلاد، وأسقطت الجنسية عن حوالى ١٤ ألف شخص. أما انقلابا عامي 1971 و1997 فكانا أقرب إلى الانقلابات «البيضاء» حيث كان بمقدور المؤسسة العسكرية أن تكتفي بإظهار «العين الحمراء» ليتحقق لها ما تريد.
في سياق كهذا، يمكن القول إن تراث أتاتورك ظل متجذراً في بنية المجتمع التركي وصمد على مدى عقود طويلة، لكنه لم يكن قادراً على حماية نفسه بنفسه بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع وحدها. لذا فقد احتاج إلى دعم وإلى تدخل مباشر أو غير مباشر من جانب المؤسسة العسكرية ليتمكن من البقاء في الحكم وليمارس نفوذه وتأثيره من خلال التحكم في أهم مفاصل الدولة والمجتمع. وقد استمر الحال على هذا المنوال إلى أن ظهر رجب طيب أردوغان على مسرح الحياة السياسية في تركيا.
لرجب طيب أردوغان، أيضاً، وجهان. الأول: تمثله براعة السياسي الذي استطاع أن يتعلم وأن يستفيد من التجربة السياسية لأستاذه نجم الدين أربكان ومن المسيرة المتعثرة للأحزاب ذات المرجعية الإسلامية في تركيا، بدءاً بحزب «الخلاص الوطني» مروراً بحزب «الفضيلة» وانتهاءً بحزب «الرفاه»، وتمكن من تأسيس وقيادة حزب «العدالة والتنمية» عام 2001، وهو الحزب الذي استطاع أن يفرض نفسه على الحياة السياسية التركية، وأن يفوز في كل الانتخابات التشريعية التي جرت منذ عام 2002 وحتى الآن. وهذا هو الوجه الذي يحظى باحترام الكثيرين داخل تركيا وخارجها، باعتبار أردوغان الرجل الذي استطاع أن يقدم نموذجاً يحتذى لإسلام سياسي معتدل قادر على إحداث التوازن المطلوب بين متطلبات الحداثة وخصوصية الهوية الثقافية والحضارية في الوقت نفسه.
الثاني: يمثله طموح امبراطوري لزعيم يسعى لاستثمار المكتسبات السياسية والفكرية والاقتصادية التي حقَّقها حزبه لمصلحة التجربة السياسية في تركيا، ويحاول توظيفها لخدمة أحلامه الشخصية، من خلال بناء نظام رئاسي في الداخل يمسك فيه منفرداً بكل خيوط السلطة، ونظام امبراطوري في الخارج يعيد إنتاج نمط الخلافة العثمانية من خلال طبعة حديثة منقحة.
لقد استطاع أردوغان بالفعل تغيير المعادلة السياسية في تركيا بعد أن تمكن من قيادة حزبه للنصر في أربع انتخابات تشريعية متتالية. وبدا في لحظة ما وكأنه الزعيم المؤهل والقادر بالفعل على تحويل تركيا إلى دولة ديموقراطية حديثة تتسع للجميع ولا تستبعد أحداً. غير أن الإنجازات الرئيسة التي حقَّقها أردوغان اقتصرت في الواقع على السنوات العشر الأولى من حكمه والتي شهدت تركيا خلالها استقراراً سياسياً وازدهاراً اقتصادياً لم تشهد لهما مثيلاً من قبل منذ تأسيس دولة تركيا الحديثة على يد مصطفى كمال أتاتورك. لكن ما إن بدأت الأحلام الامبراطوية تستولي على عقل أردوغان حتى بدأت تجربته السياسية برمتها في التعثر، خصوصاً بعد أن ألقى بثقله وراء تغيير النظام في سورية وقرر فتح حدود بلاده أمام تدفق «المجاهدين» القادمين من مختلف أنحاء العالم للمشاركة في الحرب الأهلية الدائرة على الساحة السورية. فما هي إلا شهور قليلة حتى راح التوازن السياسي الداخلي يختل، وبدأ معدل النمو الاقتصادي يتراجع، وعادت أصوات الانفجارات والقنابل تدوي من جديد في معظم المدن والمناطق التركية.
كان الاعتقاد السائد حتى وقت قريب بأن أردوغان تمكَّن من تحجيم الدور السياسي للمؤسسة العسكرية ونجح في ضبط العلاقة بينها وبين المؤسسات السياسية بما يكفي لتعبيد الطريق أمام انضمام تركيا نهائياً إلى نادي الديموقراطيات الراسخة والمستقرة. غير أن الانقلاب العسكري الأخير في تركيا، على رغم فشله، أثبت عدم صحة هذه الفرضية وأعاد تسليط الأضواء على النزعة التسلطية والاستبدادية لدى أردوغان. وإذا كانت هذه النزعة قد بدأت تطفو على السطح وفي شكل تدريجي منذ سنوات، فإن ما جرى في أعقاب فشل الانقلاب العسكري جاء كاشفاً لمدى تجذر وعمق هذه النزعة في عقل أردوغان ومزاجه وربما في بنية نظامه العقيدي والإدراكي نفسه.
على رغم تحفظي على العديد من سياسات أردوغان السابقة على وقوع الانقلاب العسكري في تركيا، وعلى الصعيدين الداخلي والخارجي، إلا أنني لم أتحمس إطلاقاً لهذا الانقلاب الذي تمنيتُ منذ اللحظة الأولى أن يفشل لاعتقادي بأنه لن يكون في مصلحة الشعب التركي ولا الدولة التركية ودورها على الصعيدين الدولي والإقليمي. ومع ذلك فقد كنت وما زلت أخشى من ردود الفعل الانتقامية لدى أردوغان وأعتقد أنها ستؤدي حتماً إلى تكريس النزعة التسلطية والاستبدادية عنده، وربما تنتهي بإفشال التجربة التركية كلها والقضاء على أي بارقة أمل في مشاركة إيجابية لأي من فصائل الإسلام السياسي في تجارب التحول الديموقراطي في البلدان والمجتمعات ذات الأغلبية المسلمة.
الأرقام التي أُعلن عنها رسمياً في أعقاب فشل الانقلاب العسكري في تركيا تبدو مفزعة. فهذه الأرقام، والتي أعلنها وزير الداخلية في بداية الأسبوع الحالي أو التي نقلتها وكالات الأنباء عن مصادر رسمية، تشير إلى أن عدد الموقوفين بلغ ١٨ ألف شخص، وعدد العسكريين الذين تم فصلهم بلع ١٦٨٤، بينهم ١٤٩ جنرالاً، وزاد عدد المدنيين الذين صدرت قرارات بحبسهم احتياطياً عن ثمانية آلاف شخص. أما وسائل الإعلام التي صدرت قرارات بإغلاقها فقد بلغ عددها ٤٥ صحيفة و١٦ شبكة تلفزيونية و٣ وكالات للأنباء و٢٣ إذاعة و١٥ مجلة و٢٩ دار نشر. لكن الأهم أن حملة التطهير ما تزال مستمرة، وبالتالي فإن أعداد المعتقلين والمحبوسين والمُسرَّحين والموقوفين في كل القطاعات في ازدياد مضطرد. وتلك شواهد على أن تركيا دولة لم تستقر بعد وأنها أقرب الآن إلى النظام الشمولي منها إلى النظام الديموقراطي. وما يقال الآن عن ضلوع غولن، ذي التوجه الإسلامي الصوفي، في تدبير انقلاب تقوم به مؤسسة عسكرية تربَّت في أحضان الأتاتوركية العلمانية ليس مقنعاً.
تركيا تبدو الآن محشورة بين توجهين شموليين، الأول أتاتوركي يرفع شعار الحداثة والعلمانية لتبرير نزعته الاستبدادية، والثاني أردوغاني يرفع شعار الهوية الثقافية والحضارية لتبرير استبداده باسم الدين. لكن الاستبداد هو الاستبداد ولا يمكن تبريره أياً كان الشعار الذي يتخفى وراءه.