انقسم الأردنيون على وقع الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا، وتنابزوا بالتهم والأوصاف. ووصلت الأمور إلى القطيعة الشخصية والاجتماعية، والتشهير المتبادل. وهي ظاهرة لم تعد غريبة علينا؛ فكثير منّا خسر نسبة من أصدقائه وحلفائه لما حدث في مصر، ويجري في سورية. وبعضنا الآخر ربما أضاف إلى قوائم المفقودين أصدقاءه في برشلونة أو ريال مدريد!
هي ظاهرة طريفة فعلاً نتشارك فيها مع أشقاء عرب آخرين، لكنّها لدينا -أردنياً- تتزاوج مع عدم اكتراث ولامبالاة بالشأن المحلي؛ فلا يقابلها اهتمام مثلاً بمناقشة الوضع الاقتصادي المتأزم والضرائب والرسوم والبطالة والفقر، ولا الجدل في قانون الانتخاب ومسارات تشكيل القوائم، ولا القضايا الجوهرية التي تعني المواطنين وتمسّ حياتهم اليومية.
من الضروري التفكير في هذه المفارقة. لكن ما هو أهم من ذلك، التأمل في مفارقة أخرى، تتمثل في نمط التفكير العام، أو العقلية الأردنية في التعامل مع الأحداث والوقائع السياسية، من خلال منهج الفرز والتصنيف والاستقطاب الحادّ، أو ما يطلق عليه بالعبارات العامّة “ليبل” (Label)؛ أي إلصاق وصف بشخص معين.
من يتابعون ويراقبون مشهد الإعلام المجتمعي، سيلاحظون حجم الاستقطاب والانقسام في متابعة الأحداث الجارية، وسيصدمون لكثرة استخدام أوصاف معينة على سبيل التهجّم (مثل: شبيح، سحيّج، إخونجي، مخبر، داعشي)، فقط لمجرّد الخلاف في وجهات النظر. وسيجدون أنفسهم أمام محاكم تفتيش جاهزة لإصدار الأحكام والأوصاف؛ التنويري والظلامي، الوطني وغير الوطني!
الخلاف في وجهات النظر مسألة طبيعية، وصحية بالتأكيد. لكن الاستقطاب والتعصب وتراشق الاتهامات والأوصاف، هي الظاهرة غير الصحية، التي لا تنبئ عن مناخ صحي طبيعي، ولا عن ثقافة ديمقراطية تقبل الاختلاف في وجهات النظر والتعددية السياسية والفكرية!
المشكلة الكبرى في هذه الثقافة الأردنية، التي تكشف جانباً مهماً في طريقة تفكير الأردنيين، أنّها تتجاوز منطق التحليل السياسي الموضوعي النسبي إلى التفكير الرغائبي أو الأيديولوجي-النظري، أو حتى العاطفي، تجاه الأحداث والأشخاص. فانقسمنا فيما إذا كان أردوغان ديمقراطياً أو ملاكاً أم أنّه دكتاتور أو شيطان، وكذلك الحال بشأن إيران وتركيا والانقلاب المصري والسعودية، وحتى الولايات المتحدة الأميركية والغرب.
بالطبع، لا هذا ولا ذاك؛ لا ملائكة ولا شياطين، لا حقّ ولا باطل، لا صحّ ولا خطأ، فالسياسة هي لعبة مصالح وتوازانات وعملية نسبية، ويمكن لشخص أن يكون محقّاً في جانب ومخطئاً في جانب آخر. ففي المحصلة هناك معايير واقعية، نسبية أكثر دقّة تقاس الأمور بها، لكنّها للأسف بعيدة تماماً عن طريقتنا -نحن الأردنيين- في التفكير، أو بعبارة أدق في ظاهرة “التشنّج العاطفي” المستفحلة لدينا!
إيران التي تعتبر أميركا الشيطان الأكبر، تتحالف معها اليوم ومع روسيا الملحدة في العراق وسورية، ضد “المسلمين السنّة”، وحزب الله قلب المعادلة فوضع إسرائيل في ظهره والمعارضة السورية أمام بندقيته، وجبهة النصرة و”داعش” على تخوم الجولان لكنهما يقاتلان جيش الأسد. أمّا أوروبا وأميركا، فعكسوا الآية تماماً؛ يتحالفون مع “آيات الله” في إيران وينظرون إلى السعودية بوصفها أم المشكلات، ويتذمرون من أردوغان، وأردوغان نفسه يستدير في مواقفه تبعاً لمصالح بلاده.
العالم براغماتي واقعي، والأيديولوجيا يتم تكييفها وفقاً لمتطلبات السياسة في العالم، إلاّ لدينا؛ فثقافتنا ما تزال مسكونة بالعواطف ومحكومة بنظرية المؤامرة؛ لكننا نختلف في تحديد من يتآمر على من؟!
بناء اللعبة الديمقراطية مرتبط بتفكير سياسي واقعي، وبثقافة تقبل الآخر، وتحترم الآراء المغايرة، ولا تحترف التصنيف والاتهام والتخوين على كل كبيرة وصغيرة، فليس ضرورياً أن نكون نسخة كربون واحدة في موقفنا من الأحداث والأشخاص، ولا أن نكون إمّا ملائكة أو شياطين!