رجحت وسائل إعلام غربية أن تكون وراء الهجوم الذي نفذه الأميركي من أصل أفغاني عمر صديق متين على نادٍ للمثليين في أورلاندو «دوافع نفسية مثلية»، كما أن المنفذ أبدى في مرات سابقة زار فيها النادي «سلوكاً عدوانياً ارتبط بإفراطه بشرب الكحول»!
لكن سيرة متين لا تقتصر على مزاوجته بين ممارسات دينية وأخرى تؤشر إلى جنوح نفسي، انما تشمل أيضاً انكفاءه الاجتماعي، كما ذكر إمام المسجد الذي كان يصلي فيه، وانطواء شخصيته على اضطرابات تحدثت عنها زوجته الأولى التي أشارت إلى أنها انفصلت عنه بمساعدة أهلها، بعد أن اكتشفت وجهاً عنيفاً له لم يكن قد تكشف لها في الأشهر الأولى من الزواج.
أما ما تمكنت الصحافة من نقله عن والده، فأوحى بموقف من المثليين الذين «يحاسبهم الله وليس عبيده»، وأن ابنه كان شاهد «رجلاً يُقبل رجلاً»، وهذا وفق الوالد ما يمكن أن يكون أثار في ابنه مشاعر العداء للمثليين! لكن سيرة الوالد أيضاً تنطوي على اضطراب، وعلى علاقة غير واضحة بابنه.
والحال أن أميركا انشغلت باحتمال أن يكون متين أقدم على جريمته بعدما تواصل مع تنظيم «داعش» الذي تبنى الهجوم، ويبدو أن أميركا هذه شعرت بالارتياح إلى حقيقة أنها لم تعثر على دليل على علاقة متين بأي جماعة ارهابية خارج أميركا أو داخلها، وأنه يُرجّح أن تكون الجريمة فعلاً فردياً، وأن يكون دافعه إليها «مثلية سلبية» عاش متين في ظلها حالاً من الفصام بين قيم أورثه إياها والده، وبين حقيقة أنه مثلي يشكل النادي امتداداً طبيعياً لحاله هذه، فكانت الجريمة قتلاً لـ «أنا» يكرهها متين.
لكن ركون أميركا إلى هذا الاستنتاج، الذي تُرجح صحته، ينطوي أيضاً على جهل بـ «داعش»، فالأخير ليس التنظيم الذي يقوده أبو بكر البغدادي، انما هو، وقبل أن يكون تنظيماً، حصيلة توترات استُبعد الجنس، والهويات الجنسية المضطربة، كعناصر تفسير له، وحلت مكان هذه المساحة غير المغطاة تفسيرات سوسيولوجية وسياسية واقتصادية. هذا في وقت تحفل سير الملتحقين بالتنظيم من الغرب بعناصر تُرجح أن عنفاً فردياً كان دافع هؤلاء للالتحاق بـ «داعش».
الأرجح أن متين غير مرتبط بعلاقة تنظيمية مع «داعش»، لكنه أراد لفعلته أن تكون جزءاً من عنف أرساه التنظيم، فهو أعلن قبل أيام مبايعته «داعش»، وهذا يكفي للقول إن «داعش» وراء الجريمة. فـ «تنظيم الخلافة» فكرة وليس جسماً، واذا لم يُدرك العالم هذه الإمكانية التي يتمتع بها «داعش» سيبقى قاصراً عن الإحاطة بالظاهرة. وعلى أميركا أن لا تشعر بالأمان نتيجة انعدام صلة متين بـ «داعش»، إذ الصلة تبقى قائمة في مكان آخر.
و«داعش» بصفته مستوعب اضطرابات وجنوح، استدخل في ماكينته أصحاب الهويات المضطربة ممن تشكلت هوياتهم الجنسية في ظروف مختلفة جذرياً عما يحملونه من قيم غرستها فيهم العائلة، ولم يتمكنوا من تصريف هذا الفصام بغير العنف.
ليس متين حـــالة خاصة، فدائماً ما حفلت سِيَر انتحاريين من «داعش»، ممن جاؤوا إلى التنظيم من خارج سياقه العراقي، بإشارات توصل إلى أن وراء هذا العنف شِقاقاً وشــقاء خاصــاً، وكثيراً ما حمل شِقاق النفس إشارات فصام في الهوية الجنسية. وللمرء أن يتخيل بقليل من المبالغة ظاهرة قتل المثليين في الموصل عبر إلقائهم من المباني المرتفعة، ويستنتج أنها فعل انتقامي موجه إلى النفس، يـــشبه فعلة متين في أورلاندو. وعلينا هنا أن نُلاحظ من الأخبار القليلة التي تصلنا من الموصل، أن من يتولى قتل المثليين بهذا الاسلوب هم غربيون التحقوا بالتنظيم.
والحال أن والد متين، بصفته أحد «أبطال» الحكاية التي نقلتها وسائل الإعلام عنه، في سيرته مؤشرات وجهة أخرى للحكاية. فغالباً ما حملت سير أشباه هذا القاتل وقائع عن توتر في العلاقة مع الأب في مقابل راديكالية في الانتماء إلى الأم، وإذا كانت أم متين غائبة عن حكاية الإعلام الأميركي عنه، فإن أمهات كثيرات لانتحاريين من «داعش» ومن غيره من الجماعات المتطرفة، حضرن في سيرهم كموضوعة لاضطهاد أول، غالباً ما يكون اضطهاد أبٍ. ولطالما كانت الأم موضوع الإيمان وعنصر بدايته، وهي الجسد الذي كان عرضة لسكين الأب. هي أمومة مشحونة وضحوية، وهي بصفاتها هذه، جسر مواز إلى المسجد وإلى الجنة. وبين الأب السلبي والعنيف والغائب، والأم الضحية والشديدة الحضور، يُصبح الموت انتحاراً استعاضة «غيرية» عن موت «أنوي» وفردي، يسهل معه قتل الآخرين.
لا يكفي الخلوص إلى أن جريمة متين فردية لكي تشعر أميركا أنها نجت بنفسها من تنظيم الخلافة، فـ «داعش» الغربي تنظيم أفراد (لا جماعة) اندرجوا في سياق من العنف أتيح لهم، وتولت «دولة الخلافة» تنظيمه وتزويده مادة من خارجه، وهو عنف متوافر ومتاح. بهذا المعنى يبدو القضاء على التنظيم في مهده جزءاً من مهمة القضاء على مركز «الفكرة» وعلى قدرة هذه الفكرة على مخاطبة جنوح المضطربين. فاضطراب متين وتعثره بهويته الجنسية ما كانا ليتحولا جريمة بهذا الحجم لولا أن موديلاً للقتل وللجريمة قُدّم له بصفته مخرجاً قِيَمياً ودينياً يتخلص عبره من نفسه ومن آخرين يعتقد بأنهم يشبهونه، فينال بفعلته تعويضاً ما. ومن اقترح عليه المهمة هو «داعش» الفكرة وليس التنظيم.
لاحظت الشرطة الأميركية أن متين وبينما كان يُقدم على جريمته، وهي فعلة استمرت ساعتين، كان يفتح، في موازاة إطلاقه الرصاص، صفحته على «فايسبوك» ليعرف ما إذا كان أحد بدأ يكتب أخبار جريمته! لم يكن متين على صلة بتنظيم «داعش» وفق ما ترجح الشرطة، أي أنه لم يكن ينتظر تعليقاً أو تبنياً فورياً من التنظيم. إذاً كان ثمة مُخَاطَب يستهدفه الشاب بجريمته. وهنا فعلاً تتكثف «الفكرة» التي لطالما رافقت أفعال «داعش»، أي أن قوة الإرهاب لا تكمن بنتائجه المباشرة لجهة عدد القتلى، انما تكمن خارجه، أي بما يُخلفه من ذهول وخوف. فهل من دليل أوضح من هذا على أن «داعش» يقيم في أميركا وعلى أنه هو المُخاطب بالجريمة؟