عروبة الإخباري- ما الذي يهم لو حررنا الفلوجة بينما نرى بغداد وهي تتحول في تلك الأثناء إلى فوضى طائفية وحكم ميليشيات؟ هذا هو السؤال الذي يحيّر صناع القرار في العراق وفي التحالف الدولي في ظل السلسلة الأخيرة من التفجيرات في عاصمة البلاد وجنوبها الشيعي.
إن الأرقام هي التي تتكلم؛ ففي 18 أيار/مايو تبنى ما يعرف بـ تنظيم «داعش»، مقتل 522 عراقي في منطقة بغداد خلال الشهر المنصرم، وجميعهم تقريباً من المدنيين. وتفاخرت هذه الجماعة المسلّحة على نحو متغطرس بهذا الإنجاز الذي حققته بواسطة 15 حزام ناسف وست سيارات مفخخة. كما أن التفجيرات الهائلة التي طالت المناطق التي تعج بالمدنيين الشيعة في بغداد في 11 و 17 أيار/مايو حصدت أرواح حوالي 200 من هذه الوفيات فيما جرحت مئات آخرين.
وأشار موقع “ضحايا حرب العراق” Iraq Body Count إلى أن المتوسط الشهري لأعداد القتلى في مختلف أنحاء البلاد في الثلث الأول من عام 2016 بلغ 1081 شخصاً، ما ينبئ بأن حصيلة ضحايا شهر أيار/مايو قد تكون الأعلى من أي شهر منذ بداية هجمات تنظيم «داعش» في صيف 2014.
لقد راقبتُ أنماط الهجمات اليومية في بغداد لأكثر من عقد من الزمن كمحلل مخاطر يعمل لصالح شركات أمنية في العراق، وهناك خلاصتان واضحتان بداية تشرحان موجة العنف الحالية.
أولاً، قد تتفاقم هذه الأزمة وتزداد سوءاً. ففي عام 2012، كانت موجات التفجيرات الكبيرة في بغداد تتتالى كل شهرين تقريباً، إلا أنه مع نهاية عام 2013، أصبحت تتوالى كل ثمانية أيام تقريباً. وخلال تلك الفترة، ارتفع بسرعة عدد التفجيرات الكبيرة التي نفذها تنظيم «داعش » في بغداد من 20 عملية شهرياً إلى أكثر من 50 في الشهر الواحد. وبحلول صيف 2013، شهدت معظم الأيام 3 تفجيرات كبيرة أو أكثر في بغداد.
ولم تنحل الأزمة أو تتوقف قط، إنما انحسرت فقط لأن تنظيم «داعش » وجد هدفاً أفضل لقواته ألا وهو احتلال الفلوجة والموصل ومعظم شمال العراق. وها نحن اليوم نواجه نفس المشكلة التي واجهنا حينذاك. ولكن عندما ازدادت فعالية القوات العراقية وقوات التحالف وفرضت نكسات على تنظيم «داعش » في ساحة المعركة، بدأت الجماعة المسلحة بالفعل بالعودة إلى تكتيكاتها الإرهابية. وقد سبق وأن شهدت الفلوجة ضربات جوية مكثفة شنتها القوات العراقية وقوات التحالف بالإضافة إلى انتقال القوات العراقية إلى بعض المناطق التي تقع على مشارف المدينة؛ ومن المرجح أن تكون بداية عملية الهجوم لاسترجاع الفلوجة، مؤشراً على خسارة تنظيم «داعش » الوشيكة لإقليم آخر.
ثانياً، لم تعد بغداد اليوم كما كانت عام 2013. فقد اعتاد سكان المدينة على درجة أعلى من الأمن وسيرغبون في المحافظة عليه. وبدأ سكان العاصمة بالاحتجاج على الفساد في الحكم والنقص في الخدمات وسيضطرون قريباً إلى التعامل مع النقص السنوي في انقطاع الكهرباء خلال فصل الصيف.
وفي الوقت نفسه، تسعى الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران – مثل «عصائب أهل الحق»، و«سرايا السلام» التابعة لمقتدى الصدر – إلى تولي زمام السيطرة على أمن مدينة بغداد وانتزاعه من قوات الأمن الحكومية، التي فشلت ليس في الحد من الهجمات المتزايدة فحسب، بل أيضاً في منع الغوغاء من أنصار مقتدى الصدر من اقتحام البرلمان الشهر الماضي والاعتداء على مرافقه.
إلا أن مثل هذه التطورات ستؤدي إلى وقوع المزيد من المشاكل. فقد تتراجع قوات الميليشيات الشيعية التي شاركت في الهجوم على الموصل لكي تظهر وكأنها تحافظ على أمن بغداد، وبالتالي تكون قد أرجأت الجهود لاسترجاع ثاني أكبر مدينة في العراق. وبغض النظر عن أن جلب المزيد من القوات إلى العاصمة لن يوقف التفجيرات، [فلا بد من التساؤل] لماذا تستمر الهجمات في بغداد في الوقت الذي تتواجد فيها 48 في المائة من القوات القتالية في العراق للمحافظة على أمنها؟
لماذا يصعب تأمين بغداد؟
تمتد العاصمة العراقية على مساحة تبلغ حوالي 150 ميل مربع (400 كم مربع) أي ما يوازي تقريباً مساحة أثينا أو أنقرا. ويبلغ طول محيطها أكثر من 70 ميلاً (113 كم) وتقع عند ملتقى شبكة من 8 طرق سريعة للشاحنات، مما يسمح للسيارات التي قد تحتوي على المتفجرات بالدخول إلى بغداد من كل ناحية. إن وجود عدد لا يُعد ولا يحصى من الطرق الصغيرة يؤمن منفذاً إلى شطري المدينة شرق نهر دجلة وغربه، والذي بنيت بغداد حوله.
وعلى الرغم من توافر أحياء سكنية كبيرة يقطنها السنة داخل المدينة، إلا أن هذه ليست مصدر الهجمات المفخخة التي استهدفت المناطق الشيعية. ففي أعقاب التطهير الطائفي الشامل بين عامي 2005 و 2008، يحرص السكان السنة في بغداد على إبعاد العنف عنهم. وتتميز مناطقهم بتحصينها بعدد كبير من الحيطان الإسمنتية، وتؤمن القوات الحكومية حماية مداخل هذه الأحياء عن كثب.
لكن منبع المشكلة هو المناطق الريفية المجاورة التي تطلق عليها قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة “أحزمة بغداد”. فعندما “زادت” دول التحالف بقيادة الولايات المتحدة من قواتها العسكرية في العراق (“الطفرة”) عام 2007، كانت “أحزمة بغداد” هدف حملات طويلة ودؤوبة لمكافحة التمرد، نجحت خلالها قوات الأمن في توطيد علاقاتها مع المواطنين والتغلغل ضمن صفوف السكان وكسبت ثقتهم وتعاونهم ضد الإرهابيين.
واليوم، يستأنف تنظيم «داعش » حملته التفجيرية ضد بغداد من هذه المناطق نفسها. إلا أن “قوات الأمن العراقية” تعمل على مستوى بدائي أكثر بكثير داخل “الأحزمة”، من خلال المحافظة على مواقع ثابتة أو القيام بـ “بعمليات تطهير” متعثرة، واسعة النطاق وبدائية يسهل على تنظيم «داعش » تفاديها. وفي الواقع، يشبه أداء “قوات الأمن العراقية” نظيراتها في قوات التحالف في السنوات التي سبقت “الطفرة” خلال فترة الاحتلال.
ولا تعتبر المداخل أو الطرق الرئيسية في بغداد آمنة. فوسط المدينة زاخر بالنشاط التجاري والمحلات، ولذلك لا سبيل إلى وقف حركة مرور العربات والمركبات على الطرق السريعة المؤدية من بغداد وإليها. ففي كل يوم يعبر أكثر من مليون شخص من فوق 11 جسراً تربط الأحياء المكتظة في شرقي بغداد – والتي يسكن فيها مليوني شخص في مدينة الصدر – متجهين إلى غرب العاصمة حيث مرافق الحكومة ومكاتبها ومراكز العمل.
ولا تؤمن نقاط التفتيش العديدة – المتوافرة على مداخل المدينة وتقاطعاتها – الكثير من الحماية. فالقوات المرهقة، التي أنهكها الطقس والحرارة والغبار والملل، عادةً ما تسمح للسيارات بالمرور دون أقل تفتيش يذكر. ولا تزال العديد من نقاط التفتيش تستخدم أجهزة كشف المتفجرات “أي دي إي 651” (ADE 651) المزيفة، وذلك بعد سنوات من إثبات عدم فعاليتها تماماً. فإذا أراد أصحاب المتفجرات تأمين عبور عبواتهم دون مشكلة، فقد تعلّموا دفع الرشاوى للعبور عبر نقاط التفتيش.
تأمين بغداد دون الخضوع لحكم الميليشيات
أدت الوحشية الشديدة لحملة التفجيرات الأخيرة التي قام بها تنظيم «داعش » إلى حث البعض إلى التفكير في بعض الحلول المتطرفة نسبياً. ويتمثل أحد الخيارات في أن تسمح بغداد للميليشيات الشيعية بتولّي عمليات الأمن. وقد تؤدي المضايقات التي تسببها الميليشيات إلى جلاء سكان بعض المناطق السنية المشتبه في تورّطها في إطلاق قاذفات القنابل. وكما حدث تماماً في عام 2014 لمنطقة جرف الصخر، قد تصبح بغداد منعزلة تماماً عن الضواحي المحيطة بها.
وحينذاك، سيتعين على المواطنين من خارج بغداد – والمقصود بالفعل المواطنين من الطائفة السنية – تسجيل أسمائهم مع من يكفلهم قبل أن تُمنح لهم تصاريح الدخول إلى المدينة، على غرار ما يتطلبه «إقليم كردستان العراق» من الزوار العرب. وستحافظ الميليشيات، التي تعتبر أقل عرضة لقبول الرشوة، على مناطقها الخاصة ومداخل المدينة عند نقاط التفتيش المسلحة. وبالتالي، ستضطلع قوات الأمن الحكومية بدور أقل أهمية في المحافظة على أمن العاصمة.
ورغم أن ذلك يبدو حلاً ماكراً، إلا أنه يعد وسيلة سريعة لفقدان السيطرة على بغداد وخضوعها لحكم الميليشيات. وتحظى القوات المسلحة غير الحكومية في العراق بسجل حافل من عمليات الإدانة والمشاركة في العنف الطائفي والاختطاف مقابل الحصول على فدية. ويرفض العراقيون قبول حكم الميليشيات – لكنهم يحتاجون إلى الحصول على بديل مناسب.
ويمكن أن يوفر الحل عالي التقنية سبيلاً لتحقيق مستقبل أفضل لبغداد. ولكن لدى قيامي بزيارة كبار مسؤولي الأمن في العاصمة في آذار/مارس انتهى الأمر بمناقشة خطط طويلة الأجل لإقامة منظومة تتمثل بـ “حلقة من الصلب” تحيط ببغداد.
ومنذ حوالي عقد من الزمن، بدأ المخططون بالتفكير في نظام تكنولوجي يستند على معلومات استخبارية لحماية المدينة من أصحاب المتفجرات الذين يستهدفونها من الضواحي. وكانت الفكرة الأساسية تتمثل في تحديد السيارات المشبوهة قبل دخولها إلى المدينة من خلال الكاميرات وأجهزة المسح الضوئي وتوجيهها إلى مناطق مناولة (مناطق التعامل معها) حيث يمكن تفتيشها دون المخاطرة بتفجيرها بين صفوف سيارات المدنيين المجتمعة عند نقاط التفتيش. وفي لندن، يعرف عدد كبير من مسؤولي الأمن، الذين تم نفيهم إليها سابقاً خلال نظام صدام حسين، أن الأعمدة الصاعدة تستطيع أن تغلق الشوارع الرئيسية خلال ثوانٍ قليلة.
وقد تم إجراء تجارب لهذه الأنظمة على نطاق ضيق في بغداد عامي 2013 و2014 ، إلا أنه لم يتم أبداً شراء المكونات لكل نظام – أي سيارات مسح خفية، ومراكز انصهار المعلومات الاستخباراتية، وسلسلة من نقاط التفتيش والخلجان لمناولة السيارات. كما أن توفير الأجهزة الأمنية الذكية في جميع أنحاء المدينة لا يعتبر عملية رخيصة ولا يسهل تنفيذها : فقد قُدرت تكلفة النظام المتمثل بـ “حلقة من الصلب” والمقترح لمدينة نيويورك بحوالي 150 مليون دولار لتنصيبه و8 مليون دولار سنوياً لإدارته. ونظراً لأن العراق يسعى وراء الحصول على حزمة قروض من “صندوق النقد الدولي” بقيمة 5,4 مليار دولار لهذا الصيف، فإن الضغوط مستمرة على بغداد لكي تحد من الإنفاق، لا التوسع به.
نظام دفاعي متعدد الطبقات لبغداد
لا يد من العثور على حل ما، سواء كانت التكلفة باهظة أم لا. ينبغي على الحكومة العراقية وقوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة أن تبذل جهوداً كبيرة لمواجهة التفجيرات التي يقوم بها تنظيم «داعش » في بغداد، بنفس أسلوب تعاونهما معاً لبناء القوات العراقية التي يمكنها هزيمة تنظيم «داعش » في ميدان المعركة.
وليس هناك حاجة للبدء من الصفر: فالأمر يصبّ في مصلحة المسؤولين العراقيين إذا أعدوا دراسة حول أفضل الحلول التي حددتها قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة قبل عام 2011. ويجب أيضاً إشراك القطاع الخاص الدولي ضمن هذه العملية، مثلما تمت الاستعانة بالشركات الهندسية في العراق لإجراء عمليات الصيانة الخاصة والحيوية لـ “سد الموصل”.
ولا ينبغي أن تكون الجهود معقدة للغاية، بل يكفي أن تستفيد من أفضل أجزاء نماذج “حلقة الصلب” وأيسرها وأن تطبقها بأسرع وقت ممكن، من خلال الاستعانة بدعم “صندوق النقد الدولي”. فالاستغلال المناسب للتكنولوجيا والاستخبارات بشكل مناسب قد يعيد تنشيط القوات العراقية عند نقاط التفتيش، التي تنتظر فرصة لتحقيق النجاح في مهمتها في المحافظة على الأمن، وربما يساعد ذلك القوات الفاسدة على التفكير ملياً بشأن الاحتيال على نظام يمكنه التحقق من حسن أدائها. ويمكن الحصول على تمويل خاص من خلال الجهات المانحة على هامش اجتماعات مجموعة الدول الصناعية السبع في اليابان في 26 و27 أيار/ مايو، حيث ستكون الاحتياجات الاقتصادية للعراق ضمن أولويات جدول أعمال الاجتماعات.
ويحتاج التحالف أيضاً إلى التعاون مع العراق، لإعادة البناء الجزئي للشراكة بين القوات الخاصة العراقية والغربية التي تمكنت من تمزيق «تنظيم القاعدة في العراق» إرباً عامي 2009 و2010 – وهي الجماعة التي سبقت تنظيم «داعش ». وحينذاك، تمكنت “قوات العمليات الخاصة المشتركة الأمريكية – البريطانية” من تدمير تنظيم «القاعدة» من خلال قيام القوات الخاصة بشن غارات مستمرة، باعتمادها على الاستخبارات في بغداد و”الأحزمة” الريفية خارج نطاق المدينة.
وعلى الرغم من نشر القوات العراقية الخاصة على الخطوط الأمامية وإعادة هيكلتها لتقاتل بطريقة تقليدية، لا زالت شعبة الاستجابة لحالات الطوارئ في وزارة الداخلية، وهي الوحدة الخاصة لمكافحة الإرهاب المدعومة من قبل الولايات المتحدة، متواجدة داخل بغداد ويمكنها تعقّب خلايا تنظيم «داعش »، إذا عملت عن كثب مع أجهزة استخبارات التحالف الدولي التي لا مثيل لها ومع قدرات القوات الخاصة.
ومع ذلك، يتمثل الدفاع الأفضل عن بغداد في المبادرة بالهجوم. وكانت التفجيرات في العاصمة أقل تواتراً حينما كانت “قيادة العمليات الخاصة المشتركة” تتولى تدمير شبكات تنظيم «القاعدة» في الأحزمة الريفية لبغداد، حيث كان يتم تحضير السيارات المفخخة، ثم شن غارات لاحقة ضد مجموعة من الأهداف حتى قبل أن تدرك الجماعة الجهادية بسقوط أعضاء آخرين من شبكتها.
ويمكن أن تؤدي العمليات الخاصة والاستخبارات والتفكير الذكي والتكنولوجيا، إلى الحد من المخاطر التي تهدد بغداد وفرض الرقابة على الميليشيات وإبقاء عملية الموصل على المسار الصحيح. وينبغي أن يكون ذلك إحدى أولويات العراق وشركائها في التحالف. فما الهدف الفعلي من تحرير الموصل إذا كان المقابل هو فقدان بغداد؟ (فورين بوليسي)