في ذكرى مانديلا.. / بقلم: هيثم حسان

1912.jpg

عروبة الإخباري- برحيل نيلسون مانديلا في الخامس من كانون أول (ديسمبر) 2013 انتهى زمن الأساطير، أو أوشك على إسدال ستارته.

 فلم يعد، بغيابهم، للأيقونات الإنسانية، التي تلهم الشعوب نضاليا، أو تشحذ همم المدافعين عن الحرية أي مكان تحت الشمس.

ونيلسون مانديلا من تلك الأساطير الكبرى التي كان لها دور لايُضاهى في النضال من أجل الحرية عبر محاربة العنصرية، التي فرضها السيد الأبيض على السود، فلما بلغت المنى، وحققت المأرب لم يعد في المكان متسع، فآثرت الرحيل إلى الخلود.

لكن أسطورة مانديلا لم تصنعها الجماهير، بل هو ذاته من صنع أسطورته بنضاله ومقاومته للرجل الأبيض، فألهمت شخصيته مناضلي العالم، وكانت سيرته الذاتية مرجعا لمن شقوا مسيرة جديدة في النضال من أجل كرامة الإنسان وحريته، وكانت مذكراته “رحلتي الطويلة من أجل الحرية”، إنجيلا للثوار، ورفيقة لمن تعاهدوا على حمل السلاح حتى الرمق الأخير، لازمتهم طوال الوقت، متوسدين إياها، لأن سيرة مانديلا النضالية كانت، ومازالت، تبعث في هؤلاء جميعا الأمل، سيما وأن خاتمة هذا المناضل، الذي سجن لمدة تناهز الربع قرن أو أزيد، توجت بالوصول إلى سدة السلطة ومنتهى الأمل، في مقابل إنكفاء سجانيه وانحسارهم، بل اندحارهم، وهو ما يدعو التلاميذ للتماهي في محاكاة المعلم الملهم، وتتبع خطوات الأقدام السوداء لأشهر سجين سياسي في العالم.

عُرف الزعيم الأفريقي بالعديد من الأسماء، فعند ولادته أطلق عليه والداه اسم “روليهلاهلا”، ويعني باللهجة المحلية “قاطع الأغصان من الشجرة”، ويعني أيضاً “مثير المشاكل”.

 وفي يومه الدراسي الأول أطلقت عليه مدرسته السيدة مدينغاني اسم “نيلسون”، وكان إطلاق أسماء إنكليزية على الأطفال الأفارقة عادة لتسهيل مناداتهم على المستعمرين البريطانيين. وليس معروفاً السبب الذي دفع السيدة مدينغاني إلى اختيار هذا الاسم.

لكن أشهر أسمائه هو “ماديبا”، وهو الإسم القبلي الذي يشير إلى قبيلته التي ينتسب إليها، ويعتبر هذا اللقب أهم من الإسم ذاته، لأنه يشير إلى أصول وانتماء الشخص، واستخدام الإسم القبلي إشارة إلى رفعة الأخلاق.

كما يُطلق عليه اسم “تاتا”، وهو اسم قبلي أيضاً يعني “الأب”، وهو من أكثر الأسماء المحببة لدى الجنوب أفريقيين.

ويُنادي الكثيرون مانديلا باسم “كهولو” ويعني “العظيم” و”الكبير”، وهو تصغير لاسم قبلي هو “أوباوومكهولو”، ويعني “الجد”.

 وعندما بلغ مانديلا السادسة عشرة من عمره، أطلق عليه اسم “داليبهونغا”، وجرت العادة أن يقام طقس احتفالي عندما يبلغ الطفل هذا العمر في قبيلة مانديلا في علامة على النضج، ويعني الاسم «مؤسس المجلس» أو «قائد الحوار». وكثيراً ما كان يستخدم الاسم عند تحية مانديلا، وكانت تسمع الحشود وهي تهتف «آه داليبهونغا». وإذا ما أردنا مناداة مانديلا بجميع أسمائه فسيكون اسمه: روليهلاهلا نيسلون ماديبا تاتا كهولو داليبهونغا!

ولد مانديلا، المتحدر من عائلة تامبوس، التيتعتبر القبيلة الأكبر بين قبائل الهوسا، في مفيزو، على بعد نحو 30 كيلومترا من كونو، في 18 تموز (يوليو) 1918م، وارتحل، عندما كان لا يزال طفلا صغيرا مع والدته، إلى قرية كونو في مقاطعة ترانسكاي الجنوب أفريقية، وأرسل إلى المدرسة وهو في سن التاسعة عند وفاة والده.

وبدأ حراك مانديلا السياسي والنضالي منمقاعد الدراسة. فبعدما تلقى دروسه الابتدائية في مدرسة داخلية في العام 1930م، دخلفي العام 1938م إلى جامعة السود في “فورت هاري”، ولكنه طرد منها في العام 1940م بسببمشاركته مع رفيقه أوليفر تامبو في إضراب طلابي لمقاطعة الانتخابات الطالبية.

ثم عملمراقباً في أحد المناجم في العام 1941م، قبل أن يلتحق بجامعة جوهانسبورغ ليستأنفدراسة القانون.
وشكّل العام 1942م إنطلاقة العمل الحزبي لمانديلا،فقد التحق بـ”حزب المؤتمر الوطني الأفريقي” (تأسس في العام 1912)، وأصبح عضواً فياللجنة الطالبية لرابطة الشبيبة في العام ذاته.
وفي العام 1949م، اقتنع الحزب فعلاً بسياسة الشباب، القائمة علىالمقاطعة والعصيان والإضرابات وعدم التعاون مع السلطات، في إطار أهداف محددة هيالمواطنة الكاملة، توزيع الأراضي، حقوق النقابات، وتعليم مجاني لكلالأطفال.

وبعد خمس سنوات، انتخب مانديلا عضواً في اللجنة التنفيذية الوطنية، ثمرئيساً لرابطة الشبيبة (1951م)، ورئيساً للمؤتمر الوطني المحلي، ورئيساً مساعداً فيالعام 1952م.

في ذلك العام بدأت حياة نلسون مانديلا في محاكم نظام الفصل العنصري، حين حُكم عليه بالسجن تسعة أشهر مع وقف التنفيذ (20 تموز/يوليو)، ثم حظرت عليهالمشاركة في أي مهرجان عام، وهو قرار جرى تمديده لتسع سنوات. أما التهمة فكانت إشرافه على حملة تحدٍّ وتحريض على العنصرية.

مع زميله تامبوأنشأ مانديلا أول مكتب للمحامين السود في البلاد، ثم أصبح رئيساً للحزب في منطقة الترانسفال،ونائباً لرئيس الحزب في جنوب أفريقيا.

 وفي 5 كانون الأول (ديسمبر) 1956م،كان من بين 156 ناشطاً سياسياً اتهموا بالخيانة، إلا أنه تمّت تبرئتهم في العام 1961م، وذلك في أعقاب مجزرة شاربفيل الشهيرة، حيث قتل 69 رجلاً مدنياً.

لكن هذه المجزرة، ورغم التبرئة، شكلت نقلة نوعية في حياة مانديلا النضالية؛ حيث أصبح من الداعين إلى تبني الحزب للنضال المسلح، وأصبح يكرر أن “الظالم هو من يحدد قواعد المعركة، ولن يكون أمام المظلومإلا اللجوء إلى الطريقة ذاتها، أي العنف في مقابل العنف”، وذلك بعد أن التزم بالعمل السلمي لمدة 20 عاماً من حياته السياسية.

 وبعد أشهر من إطلاقسراحه، أنشأ مانديلا الجناح العسكري للحزب، وأطلق عليه “رمح الأمة”، وقد ظهر إلىالعلن للمرة الأولى في 16 كانون الأول (يناير) في العام 1961م.

وفي العام 1963م، اعتقلتالقوات الأمنية قيادة حزب المؤتمر وعلى رأسهم نلسون مانديلا؛ حيث تمت إدانتهبالخيانة العظمى والسعي إلى إطاحة النظام، وحُكم عليه بالسجن المؤبد، ليتحول مع ذلك إلى رمز للنضال ضد العنصرية، ليسفي جنوب أفريقيا فقط، وإنما في العالم، بل أشهرسجين سياسي في القرن العشرين.

لطالما حلم مانديلا، طوال الـ27 عاما التي قضاها في السجن، بقريته التي تربى بها (كونو)، التي تقع على تلال ترانسكاي؛ حيث أمضى أجمل أيام طفولته وعاش معظم أوقاته فيها بعد تقاعده عن الحياة السياسية.

وظل مانديلا يحلم بكونو وذكرياته مع أبناء الريف.. تلك الحياة البسيطة المتواضعة عندما كان يلهو ويلعب مع بقية الأطفال من مجايليه، سواء عندما كان يرعى الأغنام أو يتبارز معهم.

في منزل والدته، المكون من ثلاثة أكواخ هي غرفة معيشة ومطبخ ومستودع، كان سريره عبارة عن حصيرة بسيطة في كوخ من جدران طينية وسقف من القش. وكان يتم إعداد الطعام على موقد في الهواء الطلق، بينما تأتي معظم الأغذية من حديقة العائلة.

وكتب مانديلا في مذكراته بأن “كونو كانت قرية من النساء والأطفال..كونو كانت الوطن الجميل، حيث قضيت أفضل أيام طفولتي”.

وفي القرية كان معظم الرجال يعملون في المزارع أو المناجم النائية في جوهانسبورغ، في حين كان والده وهو زعيم محلي مخلوع من قبل السلطة الاستعمارية البريطانية، غالبا ما يكون غائبا عن المنزل ويقسم وقته بين زوجاته الأربع.

ويروي مانديلا: «في المروج تعلمت كيفية صيد الطيور بمقلاع، وجمع العسل البري والفواكه والجذور الصالحة للأكل، وشرب الحليب الحار والحلو مباشرة من الأبقار، والسباحة في المياه الباردة وصيد الأسماك مع سلك وقطعة من أسلاك الحديد الحادة».

ويضيف بتأثر: «تعلمت المعركة بعصا، وهذا أساسي لأي صبي ريفي أفريقي، وأصبحت خبيرا في التكتيكات المختلفة: صد الضربات والقيام بهجوم خادع في اتجاه والضرب من الاتجاه الآخر، والهروب من الخصم بحركة سريعة».
صدرت الأحكام على مانديلا، وكان عمره آنذاك 46 عاما، مع أعضاء بارزين آخرين في المؤتمر الوطني الأفريقي بالأشغال الشاقة.

وحمل مانديلا في سجن جزيرة روبن رقم 64 / 466، وأصبح هذا الرقم مشهورا، فيما بعد، في الحملات العالمية لجمع الأموال لمكافحة مرض الأيدز ولمؤسسة مانديلا للطفولة.

وخلال سنوات السجن كان مانديلا ورفاقه السجناء يكسرون الصخور في محجر جيري؛ حيث كان يقيد كل أربعة من السجناء في سلاسل تربطهم، ويعملون من ثماني إلى عشر ساعات يوميا لخمسة أيام في الأسبوع.

وقد ألحق وهج الشمس المحرقة على الصخور البيضاء وتصاعد الغبار في المحجر اضرارا مزمنة بعيني مانديلا.

وفي سيرته الذاتية، التي كتب معظمها في زنزانته، يتذكر مانديلا مشاعر الوحدة والعزلة التي كانت تنتاب السجناء، فكتب يقول “كان سجن جزيرة روبن بلا شك أكثر المراكز قسوة وبطشا في نظام العقوبات في جنوب أفريقيا”.

وقال “السفر إلى سجن جزيرة روبن كان مثل الذهاب إلى بلد آخر.. كانت عزلته تجعله ليس مجرد سجن آخر بل عالم منفصل بذاته بعيد كل البعد عن العالم الذي جئنا منه”.

كتب مانديلا، الذي كان ذات يوم ملاكما هاويا نحيلا، “كان بامكاني أن أقطع الزنزانة في ثلاث خطوات. عندما كنت أرقد كان بوسعي أن أتحسس الجدار بقدمي بينما يلامس رأسي الجدار الأسمنتي على الجانب الآخر”.

وتغيرت الظروف خلال 18 عاما قضاها في الجزيرة تبعا للأوضاع السياسية في البلاد فضلا عن هوى المسؤولين القائمين على السجن. وخضع السجن لنظام قاس بعد اغتيال رئيس الوزراء هندريك فيرورد في أيلول (سبتمبر) 1966.

لكن مانديلا استغل مهاراته في المحاماة لمنع محاولات عديدة من الحراس لمضايقة النزلاء وأصر على حقهم في الدراسة للحصول على درجات جامعية. كما كان يحرص على محاولة التواصل مع الحراس ومعظمهم من البيض الذين يتحدثون اللغة الأفريكانية.
وإلى جانب ارادته الحديدية ومواقفه التي تستند الى المبادىء ساعد كرم مانديلا وسحره الذي يمس القلوب سريعا في تخفيف القواعد الصارمة في السجن.

ارتبط سجن جزيرة روبن الذي كان أكثر سجون جنوب أفريقيا اثارة للرعب في فترة الفصل العنصري ارتباطا لا ينفصم بنلسون مانديلا أشهر نزلائه، الذي قضى هناك عقودا من الأشغال الشاقة يعلم زملاءه ويأسر حتى قلوب سجانيه.

وسجن أول معتقل سياسي في روبن، ويدعى أوتشوماتو في جزيرة روبن عام 1658م، لكنه فرّ بعد عام مع سجناء آخرين في قارب مسروق في واحدة من محاولات فرار ناجحة معدودة سجلها المؤرخون.

وفي القرن التاسع عشر كانت سلطات الاستعمار البريطاني ترسل المجذومين والمختلين عقليا إلى الجزيرة التي سماها المستعمرون الهولنديون على اسم الفقمة التي تعيش فيها والفقمة بالهولندية تعني “روبن”.

فبعد حشد السجناء السياسيين السود في ميناء موراي المحصن يؤتى بهم إلى مبنى من الصخور الرمادية تحيطه حواجز تعلوها الأسلاك الشائكة، تعصف به الرياح وسط مياه تمتلىء بأسماك القرش قبالة ساحل كيب تاون.

وبعدها يودعون في جناح من طابق واحد، وكان في استقبالهم كلمات ساخرة كتبت على قوس يعلو الطريق تقول “مرحبا بكم في سجن جزيرة روبن..نحن نخدم بفخر”.

استمرت الحال كذلك لمدة ثلاثة عقود، الى ان بدأ الرئيس الأسبق فريدريك دي كليرك في انهاء حكم الأقلية البيضاء عام 1990م. وتحول السجن إلى متحف ومزار سياحي شهير.

ويعيش على الجزيرة، حاليا، نحو 200 شخص؛ بينهم سجناء سياسيون سابقون، بالإضافة إلى العاملين في المتحف/ السجن سابقا.

وفي عام 1999م أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) الجزيرة موقعا للتراث العالمي.

وتستضيف الجزيرة حاليا حفلات للزفاف في عيد الحب وتجتذب أزواجا من كل أنحاء العالم لعقد قرانهم في الكنيسة التاريخية الرئيسية هناك.

وفي القسم (ب) من السجن توجد زنزانة السجن الانفرادي لمانديلا. ومازال في الغرفة الصغيرة، حتى اللحظة، فنجان معدني وطبق وعلبة للاغتسال من الصفيح المقعر على المنضدة الصغيرة، التي تطل النافذة الصغيرة فيها على الفناء وعلى الارض فرشة من الليف الأبيض عليها ثلاثة أغطية رمادية اللون تستخدم كسرير حتى لا ينام النزلاء فوق الأرضية الاسمنتية الباردة.

يروي السجّان، كريستو براند، الذي وقف على باب مانديلا من عام 1978م حتى اطلاق سراحه في 1990م ويعمل حاليا في متحف جزيرة روبن (السجن سابقا)، عن مانديلا “كان دائما ودودا ومهذبا ومعينا لغيره، لقد أصبح مثل الأب بالنسبة لي. إذا ما احتجت بعض العون أو المساعدة في شيء كان دائما حاضرا”.

ومنذ عام 1985م رفض مانديلا أي عرض للإفراج عنه في مقابل التخلي عن السلاح، وفي عام 1988م نُقل من سجن جزيرة روبن إلى منزله ليخضع للإقامة الجبرية في العام 1988م. ثم أطلق سراحه في 11 شباط (فبراير) عام 1990م، وأعلن وقتها أنه ملتزم بالعمل من أجل السلام، ولكنه أكد أيضاَ أننضال «حزب المؤتمر» المسلح سيستمر حتى تحصل الغالبية، أي السود، على حقالتصويت.

في عام 1991م، وبعدما رُفع عنه الحظر، انتخب مانديلا رئيساً لحزب المؤتمر، ليكمل المفاوضات مع الرئيس الجنوب أفريقي فريديريك دو كليرك.

 وتزامنت المحادثاتمع أحداث عنف، كان أهمها اغتيال القيادي في “حزب المؤتمر” كريس هاني، وكان علىمانديلا أن يحافظ على توازن الضغط السياسي في المفاوضات تزامناً مع المقاومةالمسلح، لكن المتخاصمين سرعان ما عملا على إرساء السلام وتفادي الحرب، فاستحق كل من مانديلا ودو كليرك جائزة “نوبل” للسلام في العام 1993م.

وبعد 342 عاماً من حكم البيض،ترأس مانديلا دولة جنوب أفريقيا الديموقراطية في أيار (مايو) العام 1994م، إثر انتخاباتتشريعية.

كان مانديلا فيالسادسة والسبعين من عمره حين انتخب رئيساً لبلاده،ليعبر بـ “أمة قوس قزح” إلى أرض الميعاد، الأرض التي يعيش فيها البيض والسودبسلام، وكان مانديلا جسرا أسطوريا لنقل جنوب أفريقيا من العنصرية إلى “وطن قوسقزح”.

وكان مانديلا قال خلال محاكمتهفي العام 1964م، لقد «حاربت طوال حياتي ضد سيطرة البيض، وحاربت ضد سيطرةالسود. دافعت عن المجتمع الديموقراطي والمثالي، حيث يعيش الناس في تفاهم، ليستفيدوامن الفرص المتساوية. هذا هو الأمر المثالي الذي أطمح أن أعيشه، وأن أراه يتحقق.ولكنه أيضاً الهدف الذي من أجله أنا مستعدّ للموت”.

وبعد ذلك بنحو 27 عاماً، لميتغير خطاب مانديلا، ففي 10 حزيران (يونيو) عام 1994م، يوم تنصيبه رئيساًللجمهورية، قال إنه “من خلال التجربة المريرة التي طالت طويلاً يولد مجتمع تفتخرفيه الإنسانية بالكامل”.

ومنذ انتخابه وحتىتخليه عن السلطة في العام 1999م، عمل مانديلا على إتمام عملية نقل السلطة من الأقليةلتتحول جنوب أفريقيا إلى واحدة من أهم ديموقراطيات العالم.

واكتفى الرئيس مانديلا بولاية رئاسية واحدة، ولتبدأ جنوبأفريقيا مرحلة جديدة أسس لها المناضل من وراء القضبان. وقال بروحه المرحة محذرا من يرغب في دعوته لحملات انتخابية مستقبلية :”لا تتصل بي، أنا سأفعل”.

ورغم تشخيص إصابته بسرطان البروستاتا عام 2001م، فإنه اشترك في مفاوضات السلام في الكونغو الديمقراطية، وبوروندي، وباقي الدول الإفريقية والعالم.

وفي عام 2004م، عندما كان عمره 85 عاما، تقاعد مانديلا من الحياة العامة، ليقضي حياته مع أسرته وأصدقائه، ويحظى بالسكينة، ولم يظهر للعامة إلا في حالات محدودة.

وفي عيد ميلاده الـ 89 انضم مانديلا إلى مجموعة الحكماء، وهي مجموعة تضم شخصيات من قادة العالم، من أجل الاستفادة من خبراتهم وحكمتهم للتعامل مع مشكلات العالم.

ومنذ انتهاء مدته الرئاسية، أصبح مانديلا سفيرا من أرفع طراز لجنوب أفريقيا، يقود الحملات على الإيدز، وظهر تدخله في الأعمال الخيرية خلال السنوات التي تلت عام 2005م بعد وفاة ولده الباقي على قيد الحياة ماكجاثو، ففي الوقت الذي كان الحديث عن الإصابة بوباء الإيدز من المحرمات في البلاد، أعلن مانديلا عن وفاة ولده مصابا بالإيدز. كما ساعد بلاده على استضافة كأس العالم لكرة القدم عام 2010م.

لم تخل سيرة المناضل الآسر من علاقات نسائية وغرامية، رغم انشغالات مانديلا بالحياة السياسية.

لكن المفارقة تكمن عندما نعلم أن العلاقات النسائية لمانديلا، الأنيق، ابتدأت بالهروب من رفقة امرأة!.

 كان ذلك عندما أرغمه زعيم قبيلته في ترانسكي (جنوب شرق) على الزواج من امرأة في عام 1941م، حينها لم يكن يتجاوز من العمر 22 عاما.

وكتب مانديلا في مذكراته “لم تكن زوجتي المستقبلية ترغب في أن أقبلها بقدر ما كنت أنا أرغب في تقبيلها”.

وفي إحدى الليالي توجه مانديلا وصديقه جاستيس الى جوهانسبورغ لاكتشاف الدنيا، فتعرف لدى أسرة وولتر سيسولو، وهو مرشد مانديلا في السياسة والعشق، على شابة جميلة هادئة أتت من الريف تدعى إيفلين ماس.

وتزوج مانديلا من ايفلين في ورزقا ابنين؛ ثيمبي وماكغاتو، وابنتين؛ مكازيوي، التي توفيت في 1948م عن تسعة اشهر، وبوملا مكازيوي.

لكن مانديلا كان يتغيب كثيرا عن المنزل الاسري بسبب نضاله ونشاطاته في المؤتمر الوطني الافريقي، لكن ايفلين، التي اصبحت متدينة اكثر واكثر، قررت مغادرة المنزل الزوجي في 1955م.

وبعد عامين التقى مانديلا العاملة الاجتماعية الجذابة البالغة الـ 21 من العمر، ويني نومزامو ماديكيزيلا، وعلى الفور وقع في شباك غرامها.

وكتب مانديلا في مذكراته “لا أعلم إن كان حبا من النظرة الأولى. لكنني أعلم جيدا أنني أردت الزواج من ويني نومزامو، اول ما رأيتها”.

وويني التي بادلت مانديلا المشاعر نفسها تزوجته في 1958م، وتبنت في الوقت نفسه نضاله واصدقاءه.

ورزق الزوجان ابنتين؛ زيناني وزينزي، خلال خمس سنوات من النضال بين الاعتقالات والمحاكمات.

وأبقت السنوات الـ27 التي أمضاها مانديلا في السجن منذ 1963م، على هذا الزواج رغم تبادل رسائل الحب والدعم، علما بأن السجانين قد أدخلوا عليه الصحيفة التي كتبت عن خيانة ويني لزوجها، لكن مانديلا بقي مدافعا عن زوجته أمام سجانية، وإن خالجه بعض شك في تلك الخيانة!

وربما كانت الصورة التي جمعت ويني بمانديلا وهي تمسك بيده يوم الافراج عنه في 11 شباط (فبراير) 1990م تخفي حقيقة سرعان ما كُشف عنها! فقد تطلق المناضلان.

وعندما وصل مانديلا الى سدة الرئاسة لم يفوت فرصة للقاء نساء جميلات من ملكات جمال جنوب افريقيا الى عارضات الازياء العالميات مثل نعومي كامبل أو الممثلة الجنوب افريقية شارليز ثيرون.

وقع مانديلا مجددا في شباك الحب، ففي 1990 بعد الافراج عنه التقى مابوتو غراسا ماشيل ارملة رئيس موزمبيق سامورا ماشيل الذي قتل في حادث طائرة في 1986م ويشتبه بان يكون نظام الفصل العنصري خطط له، رغم أنها تصغره بـ 27 سنة، وبدأ مانديلا يظهر علنا شيئا فشيئا مع حبيبته وحضرا حفل زفاف رئيس زيمبابوي روبرت موغابي عام 1996م وسُلطت الكاميرات عليهما بعدما تبادلا القبلات.

ولم ينجح مانديلا في اخفاء مشاعره وكشف للصحف عن “شعور العشق الرائع”. وتزوج مانديلا للمرة الثالثة في 18 تموز (يوليو) 1998، بالتزامن مع احتفال المناضل بعيد ميلاده الثمانين، ومما عٌرف عن المناضل انه لم يكن يفوت أي فيلم تظهر فيه صوفيا لورين.

في 5 كانون اول (ديسمبر) 2013 انطفأت الأسطورة الإفريقية، بل العالمية، عن 95 عاما، فرحلت إلى عالم الخلود، وغاب عن الصورة المناضل النحيل، الذي قضى عمره باحثا عن إخراج الخير من الشر، مثلما كان يستخرج المحار من البحر مع رفاقه السجناء، والحرية من الأسر، والإنسانية من الطغيان.

وإلى جنوب الأرض شخصت أبصار العالم، وهرعوا لمرافقة مانديلا إلى مكان إقامته الأخير.

لم يكن مانديلا قديسا، وكان يرفض أن يُنظر له كنصف إله، بل كان عظيماً من عظماء حركات التحررالوطني والإنساني، فقد عمل، طوال سني حياته المديدة/القصيرة، المستحيل للحفاظ على الأمل، ومن اجل تلك الغاية أطلق على حفيدته اسم “زازيوي”، وتعني أمل، ويقول: “كنت موقنا أن هذه الطفلة ستكون جزءا من جيل في جنوب إفريقيا ستكون فترة الابارتيد بالنسبة ذاكرة بعيدة.. وكان هذا هو حلمي”.
ربما انطفأ عمر “ماديبا”، لكن بقي سحر مانديلا، وسيبقي رمزا للنضال من أجل الحرية.

شاهد أيضاً

عندما يتحول إبداع الصحافي إلى اتهام بالخيانة

بث المعلومات إلى الرأي العام موهبة تحتاج قدرات للحفاظ على تدفقها لكنها تعرض أصحابها للاعتقال …

اترك تعليقاً