تطور الجهاز الحكومي على مدى السنين، ليصل حجم العاملين في الدولة نسبة 42 % من القوى العاملة في البلاد، وهي من أعلى النسب في العالم أجمع. ولم يكن من الممكن، والحال كذلك، أن يتطور هذا الجهاز ليجاري متطلبات العصر، بعد عدم قدرة الدولة على توظيف المزيد، وعدم ملاءمة القوانين التي تسمح للقطاع الخاص بخلق فرص عمل حقيقية واستيعاب الآلاف الذين يحاولون دخول سوق العمل سنويا. وقد أضحت البيروقراطية الأردنية، بمعناها الواسع، حزبا بحد ذاته في كل شيء عدا الاسم؛ “حزب” تعوّد على نمط معين من الإدارة لم يعد ملائما لمواجهة التحديات الهيكلية في الاقتصاد الوطني، وعلى رأسها موضوع البطالة، خاصة وقد نخرت الواسطة والمحسوبية بهذا الجهاز لعقود من الزمن.
كما أن التغيير السريع للحكومات، وغياب الحياة الحزبية، لم يتيحا أصلا لأي رئيس وزراء أو أي حكومة فرصة تطبيق خطط اقتصادية وإدارية وفقا لأي إطار واضح. ومع مرور الزمن، أصبح الجهاز الحكومي عصيا على التغيير، وإن شاء صانع القرار تطبيق إصلاحات ضرورية. إذ حتى عندما أتى لرئاسة الحكومة أشخاص أصحاب رؤى، وجدت الإدارة البيروقراطية مشكلة في التعامل معهم، ولم يستطع أي منهم أن يغيّر الكثير من نمط الإدارة الرتيب هذا.
وقد نجحت هذه الإدارة الحكومية إما على لفظ كل الأفكار والأشخاص الذين حاولوا الإصلاح السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي من داخل السلطة التنفيذية خارجا، أو استيعاب هؤلاء بعد دخولهم الحكم وتحييدهم بطريقة تجعلهم غير قادرين على تنفيذ رؤاهم الإصلاحية، بل وفي أغلب الأحيان الاستسلام للنمط الإداري الرتيب.
جلالة الملك تنبه لهذه المشكلة، حين شكل لجنة وطنية جامعة من داخل وخارج الحكومة (الأجندة الوطنية)، لإعداد تصور للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي لا يعتمد فقط على مخرجات الإدارة البيروقراطية العاجزة أحيانا عن التفكير خارج الصندوق وإخراج البلد من عنق الزجاجة سياسيا واقتصاديا ومجتمعيا. وقد تم وضع رؤية متقدمة أصبحت اليوم مرجعا لما يجب تنفيذه للوصول إلى مستقبل حداثي مزدهر. لكن هذه الرؤية لم تنفذ لعدة أسباب سياسية مصلحية، وأيضا لأن الجهة المنوط بها تنفيذها هي الإدارة البيروقراطية والأمنية الرتيبة ذاتها، المحكومة بأطر تقليدية لم يتم تطويرها بالقدر الكافي.
وكما أن الإصلاح لا يمكن تنفيذه من دون إصلاحيين، فمن الصعب توقع أن تقوم الإدارة والأُطر القديمة ذاتها بتنفيذ رؤى حداثية. ماذا يعني ذلك؟ ببساطة، أنه لم يعد من المهم إعداد الخطط وتقديم الرؤى إن لم تصاحبها آليات للتنفيذ. كم من خطة تم إعدادها لهذا القطاع أو ذاك، ولمرات عدة، لكن لتبقى عصية على التنفيذ؛ إما لعدم قدرة أو عدم رغبة الجهاز الحكومي في التغيير. وقد أعرب جلالة الملك عن استيائه عدة مرات من “تطفيش” الاستثمارات، أو رفض كل ما هو خارج عن المألوف أو المرغوب من قبل الجهاز الحكومي.
إذن، ما العمل؟ إما أن يكون هناك جهد حقيقي مواز لتطوير الإدارة الحكومية، كي تستطيع التعامل مع الرؤى، وبخاصة نبذ الواسطة واعتماد الكفاءة؛ وإما الوصول إلى الاقتناع بأن السلطة التنفيذية بإدارتها البيروقراطية الحالية غير قادرة أو راغبة في التغيير، وبالتالي من الأجدى أن تنصبّ الجهود على المجتمع المدني وعلى قطاع الشباب لإحداث التغيير، مع إدراك أن هذه الطريق ستأخذ وقتا طويلا.
لا تنقصنا الرؤى بعد اليوم؛ بل آليات التنفيذ، وإلا سنبقى ندور حول أنفسنا، ونعاود اجترار الرؤى بين الفينة والأخرى، من دون أن تتوافر أي فرص للتنفيذ.