عادة ما يأخذنا السجال حول إصلاح التعليم في الأردن إلى مساحة ضيقة، يصبح من الصعب معها تحقيق الإجماع الوطني اللازم لإنجاز هذه المهمة الكبرى، والتي بدونها يستحيل أي إصلاح في المجالات الأخرى.
في الآونة الأخيرة، ومع تنامي القلق من ظواهر التطرف والإرهاب في عالمنا، كان التركيز مضاعفا على مناهج التعليم وأثرها في رفد بيئة التطرف. ومثل هذا التوجه ليس ترفا بالتأكيد، لكنه ليس سوى جزء من مشكلة أكبر وأعمق.
لاشك أننا نحتاج لوقفة مراجعة جريئة لكتب الثقافة الوطنية والدينية، لتأصيل المفاهيم والقيم الإنسانية، لبناء ثقافة الاستنارة، وتعزيز الولاء الوطني، وإظهار المعدن الأصيل لحضارتنا، وتأهيل طلابنا لدخول تحدي العالمية، والتصالح مع شروطها ومتطلباتها، ونبذ الكراهية والتعصب، والتسليم بالآخر مهما كان اختلافنا معه.
هذه قضية لايمكن المساومة عليها، لكنها ليست كل الحكاية كما قلنا. الإصلاح ينبغي أن يطال المناهج برمتها؛ العلوم والرياضيات واللغات والفيزياء. بمعنى آخر؛ إصلاح طرق وأساليب التعليم وتجاوز مدرسة التلقين، لصالح منهج التفكير النقدي والمعرفي، وبناء القدرات التي تؤهل الطلبة لخوض تجارب ناجحة في الحياة. وفي نفس الوقت، اكتساب مهارات الحياة عبر برامج نشاط موازية تمنح الطلاب فرصة اختبار المفاهيم النظرية في الممارسة العملية، وكسر الجمود في التفكير، وامتلاك الشخصية الجريئة والواثقة.
هذا أصل الحكاية، ودونها تفاصيل يمكن معالجتها بوسائل شتى. أما تجاهلها والانصراف إلى معارك جانبية، ففيه ضرر بالغ بالمهمة الرئيسية.
إصلاح التعليم لايقف إلا على قدمين اثنتين؛ المناهج والمعلم. وفي الدول الأكثر تقدما تحتل مسألة تأهيل المعلمين تربويا أولوية أولى، لا بل إن إصلاح المناهج يقع في صلب واجبات المعلم المؤهل والقادر. فتترك له مهمة إعداد المناهج وتطويرها بما يتوافق واحتياجات الطلبة، وخطط البلاد التنموية والاقتصادية.
بعد عقود من التميز في إعداد المعلمين في الأردن، أفقنا ذات يوم على تراجع كبير في قدراتهم، وقصور فاضح في برامج تأهيلهم. وقد دلت النتائج الكارثية للدراسات على حجم الخلل الذي أصاب العملية التربوية والتعليمية بسبب هذا الإهمال لركن أساسي من أركان العملية التعليمية.
نتائج الاختبارات الوطنية، والمستوى المتدني لطلبة المدارس، ونسبة الأمية في الصفوف الأساسية كانت علامات على إخفاق مريع، ضرب أساسات التعليم في الأردن، وخلّف آثارا سلبية تتبدى في مراحل التعليم المتقدم؛ الجامعي والمتوسط، وفي نوعية الخريجين وقدراتهم المتدنية، ناهيك عن عدم مواكبتهم لمتطلبات السوق والمنافسة.
خطت وزارة التربية والتعليم خطوة مهمة مؤخرا بإعلانها عن تأسيس أكاديمية لتدريب وتأهيل المعلمين قبل التحاقهم بالمدارس. وهذه دون شك خطوة حاسمة إذا ما أخذت على محمل الجد، وجرى الإعداد لها وفق أفضل المعايير العالمية المتاحة. فالتأهيل التربوي للمعلم أهم من التأهيل الأكاديمي، وإعداد المعلم القادر يعني بناء جيل من الشباب القادرين أيضا؛ فالمعلم هو الملهم لطلبته، والمثل الذي يطمح الطلاب لتقليده والسير على خطاه.
هنا الحكاية كلها؛ معلم مؤهل ومنهاج دراسي يحاكي الحداثة والعصر، ويستجيب لمصالح المجتمع واحتياجاته.
العملية على صعوبتها ليست اختراعا للعجلة من جديد؛ فهناك شعوب سبقتنا في هذا الميدان، ولاعيب في استلهام تجاربها والتعلم من خبراتها. المهم أن نملك الإرادة، ونمضي دون أن نشغل أنفسنا في معارك جانبية، نبدو معها وكأننا منقسمون بينما نحن متفقون فعلا.