بدأت دائرة السير عبر رجالها ودورياتها إجراءات مشددة للحد من ظاهرة الوقوف المزدوج للسيارات في شوارع العاصمة. خطوة طيبة دون شك، لكنها متأخرة كثيرا، ففي السنوات الأخيرة تحولت تلك الظاهرة الشاذة إلى تقليد مستقر وسواها من التقاليد الملتزمة بالقانون هى الظاهرة الغريبة. حتى أولئك القابضون على جمر القواعد المرورية باتوا يخشون الوقوف في المكان المخصص للسيارات، لأن سائقا من بعدهم سيأتي ويغلق طريق خروجه. ولهذا كثيرا ما نلاحظ المواقف المخصصة للسيارات عند مداخل مراكز التسوق مثلا فارغة بينما عشرات السيارات تتزاحم وقوفا على حوافها.
وليت مشكلة المرور وقفت على هذه الظاهرة، فهى مجرد مظهر من مظاهر فوضى استوطنت في الشوارع، وصار علاجها ميؤوسا منه.
الحاصل في السنين الأخيرة، أنه كلما زاد عدد المركبات في شوارع العاصمة والمدن الكبرى، خفت قبضة القانون، حتى كادت أن تتلاشى، على عكس القاعدة في مثل هذه الحالات التي تتطلب تشددا أكثر في تطبيق القانون، لضبط سيل السيارات المتدفق في الشوارع.
الشوارع التي عرفناها في زمن مضى تغيرت بشكل جوهري؛ المسارب تلاشت تقريبا، وأصبح القفز من مسرب لآخر سلوكا روتينا تعودنا عليه جميعا، لدرجة أننا لم نعد نقف أمامه كمخالفة تثير غضبنا. والجهات البلدية المعنية “استوعبت” هذا التطور في شوارعنا، فلم تعد تكترث بترسيم المسارب وتحديد ملامحها.
ومع انقراض ثقافة المسارب، لم يعد هناك لزوم لـ”الغمازات” مادامت الشوارع ميدانا حرا للسباق. ويمكن في مثل هذه الحالات أيضا أن يصبح التوقف مثل الوقوف المزدوج متاحا في أية نقطة من الشارع.
وفي مرحلة سابقة شنت دائرة السير حملة لضبط وردع التجاوزات على الإشارات الضوئية، وكان للحملة تأثير إيجابي. لكن ما إنْ توقف التدقيق على ظاهرة قطع الإشارة الحمراء حتى عادت من جديد؛ لايمر يوم دون أن نرقب سائقا يقطع إشارة حمراء. وصار عرفا أن يتسمر أصحاب الإشارات الخضراء في أماكنهم إلى أن يقرر مَن على الجانب الآخر من الشارع التوقف امتثالا للإشارة من تلقاء أنفسهم. عمليا الإشارات الضوئية في عمان في طريقها هى الأخرى للاندثار.
ماذا تبقى من مظاهر القانون؟
أمور بسيطة وشكلية في الحقيقة؛ فقبل تغلب السائقين على عقبة الإشارات الضوئية ومسح المسارب، واعتماد المواقف المزدوجة، كانوا قد انتهوا من فكرة الأولويات “السخيفة” على “الدواوير”. الدوار أصبح بحق دائرة مفتوحة، لابل وعلى غرار قانون الانتخاب “قبل السابق” في الأردن دائرة وهمية، لايلحظ أحد وجودا لها، إلا إذا وقف رجل سير على إحدى عتباته، وفرض على السائقين التناوب بالدخول إليه.
وفي أحيان كثيرة يخضع رجل المرور لضغط الشارع، فيترك للجماهير حرية الحركة كما تشاء، ويقف على زاوية الشارع متأملا لاحول له ولا قوة.
من الناحية العملية يمكن الجزم بأن قانون السير كله صار خارج الخدمة، وحل مكانه قانون الشارع الذي فرضه السائقون بقوة إرادتهم، فكانت الفوضى. تلك هى البداية التي أوصلت عواصم مثل القاهرة إلى ماهي عليه اليوم.