أن يصل الخلاف بين الحكومة و”رئاسة” مجلس النواب حد اللجوء إلى المجلس العالي لتفسير القوانين، فذلك يعني أن الأزمة بين السلطتين بلغت مرحلة حرجة.
الخلافات بين “الرئاستين” ليست جديدة؛ فثمة فتور واضح في العلاقة، يتبدى في سلوك الطرفين تحت القبة، والتصريحات أحيانا، لكن أكثر مظاهره خلف أبواب مغلقة، أخفقت وساطات عديدة في احتوائه.
لكن في المحطات التشريعية المفصلية كقانون الانتخاب مثلا، تجنبت رئاسة مجلس النواب المساومات مع الحكومة، وأبرمت ما يمكن وصفة بهدنة مؤقتة، سرعان ما انفرط عقدها بعد إقرار القانون.
عنوان الإشكال هذه المرة يتمحور حول صلاحيات رئيس مجلس النواب في تعيين الموظفين. وقرار المجلس العالي شمل في تفسيره رئاسة “الأعيان” أيضا، وبموجبه أصبحت الصلاحية مقيدة بيد رئيس الوزراء.
أغضب القرار النواب، وربما الأعيان. لكنه في الصورة الكلية، ليس أكثر من رأس جبل من الخلافات المتراكمة بين الطرفين، طالما عبّرت عنها رئاسة “النواب” ومكتبه الدائم في مناسبات علنية عديدة. وكثيرا ما ترجمها النواب بسلوك مناكف للحكومة تحت القبة، وضربات فوق الحزام وتحته في جلسات تحولت إلى مهرجانات لهجاء الحكومة وإطلاق الألسن السليطة عليها.
وكان الرد عليها بسياسة مدبرة وذكية، تعاقب رئاسة النواب باستبعادها من حلقات القرار الضيقة. وفي واقع الحال، وجدت السلطة التشريعية نفسها بين سندان الإقصاء، و”شاكوش” الامتثال.
لكن حين ينظر المرء للخلاف الحاصل في إطار المشهد السياسي العام، سيقول: كفى مهازل! البلاد تمر في منعطف تاريخي صعب، وتواجه أكبر وأخطر تحديات في تاريخها، ونحن في مراكز صناعة القرار نتصارع على قضايا هامشية كقضية التعيينات.
والقول وقائله على حق؛ هذه الحكومة ولدت من رحم المجلس الحالي، وحظيت بتزكية كتلته الأكبر؛ كتلة رئيس المجلس، وعُدّت في زمنها باكورة التحول لنمط الحكومات البرلمانية، وها هي اليوم تدخل في صدام مع حلفائها المفترضين وقاعدتها النيابية في المجلس. وليت الخلاف على البرامج والسياسات والتشريعات، بل على أمور إدارية تفصيلية يمكن تسويتها بالقليل من النوايا الحسنة.
الحكومة أخطأت في اللجوء إلى المجلس العالي، وكان عليها أن تبذل الجهد الكافي للتفاهم مع رئاسة النواب عوضا عن الخطوة التصعيدية. قد يقول أحدهم: اللجوء إلى جهة دستورية هو أفضل وأرقى الوسائل لحسم الجدل. هذا صحيح عندما يتعلق الأمر بموضوع عام أو تشريع، لكن في مسألة ثنائية وإدارية كان حولها خلاف قديم، كان من المناسب تسويتها في إطار علاقات التعاون والتكامل بين السلطتين.
على طاولة السلطتين أكوام من المشاكل والقضايا العامة، وليس لائقا بحق مجلس النواب أن يظهر كسلطة تخوض مواجهة مع الحكومة حول تعيينات إدارية لن تسلم من تهمة التنفيعات، فيما أسئلة البطالة والفقر والظروف الاقتصادية الصعبة تضغط بقوة على أعصاب مجتمع بحاله.
سامحونا؛ هذا ترف ليس وقته، خاصة أننا في الأمتار الأخيرة من محطة النهاية في رحلة السلطتين.