ثمة إدراك دولي وإقليمي أنّ الأردن يمثّل نموذجاً حقيقياً، اليوم، على فنّ إدارة المخاطر وتجنب الانزلاق للأزمات، ما وفّر حالة من الأمن والاستقرار. لكن، في الوقت نفسه، نحتاج إلى دراسة معمّقة ودقيقة للمتغيرات الجديدة، التي أصبحت تمثّل عوامل فاعلة ومهمة في المشهد الإقليمي، ومدى تأثيرها على الأردن؛ وأن نعيد صوغ مفهوم الأمن الوطني بمعناه الشامل، في ضوء هذه القراءة المطلوبة من قبل خبراء وسياسيين، يغوصون تحت سطح ما يجري لاستكشاف مستوى التحول الحقيقي الجوهري الذي يجري اليوم.
أهمية هذه القراءة الوطنية الاستراتيجية تتمثل في أنّ المتغيرات-المدخلات الجديدة مجتمعةً تؤدي بنا إلى نتيجة خطيرة تتمثل بانهيار المنظومات الوطنية والإقليمية السابقة، وبروز أخرى جديدة، وفي مقدمة ذلك تصدّع الكيانات القطرية العربية في كثير من الدول.
وأول هذه المتغيرات ازدهار النزعة الطائفية والعرقية وتغوّلها على المشاعر الوطنية بصورة قاتمة، حتى أصبح القتل على الهوية الدينية أو الطائفية أو العرقية، وربما العقائدية، أمراً اعتيادياً في كل من العراق وسورية واليمن.
إذن، علينا الاكتشاف والتفحّص فيما إذا كنّا سنضطر إلى التعامل في المرحلة المقبلة مع حالة مستمرة دائمة من عدم الاستقرار، حتى لو استؤنفت مفاوضات جنيف حول مستقبل سورية؛ وفيما إذا كنّا سنواجه خريطة جديدة في الشرق الأوسط، وما هي خياراتنا في مواجهة ذلك؛ هل هي التوسع والتهام مناطق محيطة، كما طالب بعض المحللين السياسيين؟ أم إقامة شبكة علاقات آمنة (نظريات الوسائد) كما يسود في أوساط سياسية، وهي نظرية اهتزت كثيراً مع التطورات الأخيرة في جنوب سورية؟ وهل يمكن أن نتقوقع ونغلق الباب أمام الأحداث الجارية؟ وماذا عن اللاجئين؟ وهل الأفضل أن نحسم بالانحياز إلى المعسكر العربي- السعودي أم “إعادة التموضع” واتخاذ موقع “الحياد الإيجابي”، أم مواقف “نصف غامضة” مواربة للتعامل مع التناقضات البادية بين الظروف الإقليمية وقراءتنا للمصالح الوطنية؟
هل فعلاً “الحياد الإيجابي” في ظل الاستقطاب الحالي بين المحورين الإيراني-الروسي من جهة، والتركي-السعودي من جهة أخرى، سيحقق مصالحنا الوطنية ويكفل لنا النجاة من ورطات كبيرة، أم أنّنا سنخسر الجمل بما حمل، ونفقد مصادر الدعم مجتمعة؟!
إذا تجاوزنا الأسئلة السابقة إلى ما هو أكثر عمقاً، فلماذا تخسر الجيوش النظامية أمام المليشيات العقائدية في كل مكان؛ العراق وسورية واليمن ولبنان وليبيا؟ هل المشكلة في بناء الجيوش الوطنية؟ أم في جيوش تلك الدول؟ أم أنّه التحول في مفهوم الحرب نفسها إلى نمط “الغوريلا” أو العصابات، ما يعني إعادة هيكلة الجيوش بصورة هجينة لتكون متكيفة مع هذه التطورات؟ أم تزويد الجيوش ببنية عقائدية-تاريخية، دينية تتناسب مع فلسفة الدولة ورسالتها؟
ماذا عن مستقبل التسوية السلمية والسلطة الفلسطينية وعملية التهويد والاستيطان الجارية؟ وقد تنبأ الدكتور وليد عبدالحي، الخبير البارز في الدراسات المستقبلية بما سماه “النكبة الثالثة” في العام 2025، إذ سيكون عدد المستوطنين في “الدولة الفلسطينية الموهومة” ما بين 850-870 ألف مستوطن، وبما يفوق عدد سكان إسرائيل العام 1948. ووفقاً للمعادلة المطروحة؛ فإذا حسبنا مساحة المدن الفلسطينية قياسا لعدد السكان، فإنه مع العام 2025 سيكون حوالي 85 % من الفلسطينيين يتكدسون في مساحة 14% من الضفة.
يبقى السؤال الداخلي هو الأكثر إلحاحاً، لأنّ ما يحدث أثبت بأنّ الأزمات الداخلية هي أساس البلاء والنجاة في الوقت نفسه؛ ماذا نريد؟ ما هو تصورنا للحريات والمواطنة والعدالة ودولة القانون؟… ما هي الخطة؟