يقتضي الجدل حول مواجهة التطرف والتحديات المرتبطة بموجة التدين السائدة، أن نبحث عن علاقة جديدة أو بديلة عمّا هو سائد ومتبع اليوم في الدول العربية والإسلامية، مفترضين فشل هذا النموذج بدلالة تطور حالات الكراهية والتطرف والصراعات الدينية.
والسؤال البديهي والتلقائي الذي يقود إليه الجدل، هو كيف يكون الدين في سياق الإصلاح والتنمية والتحديث من دون أزمات اجتماعية وانقسامات في الدول والمجتمعات، وكيف يمكن التوفيق بين الصراع مع التطرف الديني واحترام التدين والتزامه (لمن يشاء) في الوقت نفسه؟
والقول إن الأنظمة السياسية العربية في إدارتها وتنظيمها الشأن الديني كجزء من سيادتها أو احتكارها السلطات وتهميش المجتمعات، أنشأت التطرف الديني السائد اليوم، ثم نشأت متواليات الكراهية والعنف، لا يعني الدعوة إلى محاربة الدين أو تهميشه أو إلغاء العلاقة بين الدول والمجتمعات والدين، لكن الفكرة هي تصحيح هذه العلاقة ووضعها في سياق الإصلاح والتنمية، أو لنقل إن المسألة هي كيف يكون التدين جزءاً من التقدم وليس عامل تأزيم وصراع؟ وكيف نثق بأننا (السلطات والمجتمعات والأفراد) نحارب التطرف بالفعل ولا نساهم في تغذيته وتكريسه؟
فهم الدين وتطبيقه وتنظيم علاقته بالسلطة والمجتمع والأفراد، ليست حالة واحدة متّفقاً عليها، لكنها حالات كثيرة مستمدة من تعدّد الأنظمة السياسية والاجتماعية والفكرية، والتي تتبعها بطبيعة الحال قراءة الدين وتأويل النصوص الدينية، وقد كان الدين وما زال جزءاً من السياسة والحكم في جميع الأنظمة السياسية حتى في الدول والمجتمعات العلمانية. وتقوم الدول عادة، باستحضار الدين والوطنية من أجل تكريس الولاء والشرعية السياسية، ولا بأس في ذلك على أي حال.
يمكن ملاحظة نموذجين رئيسين سائدين ومعاصرين في تفسير الدين وتطبيقاته: تفسير ديموقراطي ليبرالي، طُبق ويطبَّق في دول وتجارب وأفكار كثيرة، كما في الهند في عهد جواهر لال نهرو، وفي الولايات المتحدة في نموذجــها الديموقـــراطي اللـــيبــرالي مع روزفلت وكينيدي وكلينتون، أو لدى حركات اجتماعية وسياسية مثل غاندي ومارتن لوثر كينغ. وفي الفضاء الإسلامي، هناك نماذج فكرية وتنظيرية كخير الدين التونسي، رفاعة الطهطاوي، محمد عبده، علي عبدالرازق، نصر حامد أبو زيد، ومحمد أركون…
وهناك أيضاً وكما نشهد اليوم في عالم العرب والمسلمين، النموذج المحــافــظ الذي رعتـه وأنـشأتـه الأنظمة السياسية نفسها من خلال مؤسساتها الرسمية: دينية وتشريعية وسياسية وتــعليميــة، كما يمكن هنــا إدراج نموذج ريغان في الولايات المتحدة والهند (حزب المؤتمر) منذ أواخر السبعينات.
وعلى رغم أن العلمانية تبدو اقتراحاً بديهياً كبديل للحالة السائدة، لكنها ليست قراراً أو سياسة فورية، ولا تعمل تلقائياً، ويحتاج الوصول إليها إنشاء بيئة ملائمة كشرط لنجاحها وتقبّلها أيضاً، ففي هذا الخطاب الاجتماعي السائد صار الصراع يبدو كأنه بين الكفر والإيمان، ولن تقدر المنظومة السياسية والإعلامية بسهولة أن تحرّر الدين من الصراع، وقد تفشل في بناء تماسك وطني واجتماعي يدعم مواجهة التطرف والإرهاب. فقد تحولت الحرب على التطرف والإرهاب إلى صراع على الدين والشرعية الدينية، وسيكون مكلفاً للسلطات السياسية أن تتخلى عن تنظيم الشأن والتعليم الديني، كما أن السلطات العربية في طابعها الأوليغارشي لا تشجّع استقلال المجتمعات، وتعتقد أنها ما زالت قادرة على الاحتفاظ بالسلطة الدينية واحتكارها.
والمشكلة الثانية في فكرة إسناد الشأن الديني إلى المجتمعات والأفراد، أنها تواجه معارضة شعبية واسعة، وحتى الجماعات الدينية المعارضة للسلطة السياسية أو التي تراها مقصّرة في دورها الديني مثل الإخوان المسلمين والسلفيين، تعارض بقوة أن تتخلى الدولة عن دورها في التعليم الديني، وبطبيعة الحال فإن المؤسسات والمصالح القائمة حول الحالة الدينية السائدة ستعارض بقوة أي تغيير فيها يمسّ مصالحها ومكتسباتها.
والحال أننا في حاجة إلى نضال جديد للتأثير في السلطات والمجتمعات والأفراد في اتجاهين: تحويل العلمانية إلى هدف تتشكّل حوله المجتمعات والجماعات، فمن غير قواعد اجتماعية للعلمانية لن تقتنع الأنظمة السياسية بجدواها، وإنشاء خطاب ديني علماني عملاً بمقولة نصر حامد أبو زيد: العلمانية هي التفسير العلمي والحقيقي للدين.