كما تتكون الزوابع فجأة، وتتلاشى من تلقاء نفسها بسرعة، تكونت خلال الأيام القليلة الماضية زوبعة صغيرة أخرى في فنجان الفنانة فيروز، تماثل تلك التي حدثت قبل عامين وأكثر، حين أفصح زياد الرحباني، ابن الفنانة ذائعة الصيت، عن الميول السياسية لأمه الصامتة صمت “أبو الهول”؛ فأثار، يومها، سجالاً حامي الوطيس لدى محبي “سفيرتنا إلى النجوم”، بين من دافع عنها بحرارة، وبشيء من القداسة، وراح يحاول الاستثمار السياسي في دلالة ذلك الخبر الذي نفته ابنتها ريما، وبين من أخذ عليها الانحياز لجانب حزب الله الخائض في الدماء السورية حتى الركب.
وأحسب أن مثل هذه الزوابع الكلامية، التي لا تبلغ مستوى العواصف أبدا، تظل محصورة أساسا في أوساط النخب الثقافية والفنية، إلا أنها تتطاير في الفضاء الواسع بسرعة، لما تتسم به من صخب وحدة، كون رجع دويها يتردد في الطبقات الاجتماعية ذات الصوت المسموع جيدا، أي بعيداً عن أكثرية الناس المهمومين بشؤونهم اليومية، المثقلين بشجونهم التي لاحصر لها، حيث تحتل مثل هذه المسائل أدنى درجة على سلم الأولويات العامة، بدليل أن الزوبعة الأخيرة حول “جارة القمر” لم تحظ إلا بأقل القليل من المتابعات الإعلامية.
وفيما أتت متاعب فيروز في المرة الأولى من داخل بيتها، الذي لا تزوره الصحافة، أتت هذه المرة من جانب صحيفة لبنانية بنت كل مجدها على سبق نشرته قبل نحو ربع قرن، كشفت فيه النقاب عن صفقات أسلحة إسرائيلية لصالح إيران إبان الحرب العراقية-الإيرانية، ثم ركنت تلك الصحيفة (الشراع) في الظل طويلاً، إلى أن عادت موخراً لتثير زوبعة جديدة حول الفنانة، التي احتفلت قبل فترة وجيزة بعيد ميلادها الثمانين، قائلة إن فيروز تعشق المال، وتحب نوعاً معيناً من الويسكي، وأنها ما تزال تمالئ نظام بشار الأسد، رغم كل ما ارتكبه من مجازر وحشية.
والصحفي اللبناني حسن صبرة، ناشر مجلة الشراع ورئيس تحريرها، المقيم في القاهرة على ما يبدو، قال إنه يحب سماع فيروز، ويقدر قيمتها الفنية، إلا أنه لا يستطيع -بحكم كونه صحفيا في المقام الأول- أن يهمل نشر قصة إخبارية حصل عليها، أو أن يحجبها تحت أي اعتبار آخر، وهو ما أثار هذه الزوبعة، التي انخرطت بعدها أقلام المحبين والمتربصين في معركة جديدة، ذات طابع اتهامي بالغ القسوة، بين فريقين نظرا معاً إلى فيروز كقائد سياسي، أو ربما كزعيم مليشيا، وتناسيا في الوقت ذاته مكانتها الفنية الرفيعة، التي أجمع عليها اللبنانيون والعرب، رغم اختلافاتهم على كل شيء آخر في بلادهم.
في المرة السابقة، أدليت بدلو صغير في المياه الشحيحة لهذه البركة الراكدة، حين سبب زياد الرحباني لأمه إشكالية كانت في غنى عنها، وادعى أن السيدة التي غنت لمكة والقدس كانت تقدم حفلات العشاء لضباط الأسد المشرفين على اجتياح مخيم تل الزعتر العام 1976؛ إذ لمتُ الولد العاق، وشكرت الابنة على نفيها هرطقات شقيقها الهاذي في دهاليز السياسة. أما هذه المرة، فقد وجدت نفسي مفتقرا للأسباب الموجبة للوم صحفي لديه حق لا يصادر في نشر معلوماته إذا كانت موثوقة، فيما وجدت دفاعات ريما الرحباني عن أمها متهافتة، كونها صبت جام غضبها على حسن صبرة، من دون أن تنفي صحة ما أورده من أخبار صادمة.
على أن الملاحظة الجوهرية التي أود تسجيلها في هذا السياق من الملاسنات المترفة، هي تلك المتعلقة بتسييس بعض الكتاب لأي أمر كان، وتنميط ما يصدر عنهم من تعليقات تنم عن مواقف مسبقة الصنع، وتقوم على اعتبار قيمي ذي بعد واحد، حتى إن بعضهم، لاسيما أصدقائي أصحاب الخلفيات القومية واليسارية، يصدرون أحكامهم الجاهزة سلفا إزاء كل مسألة خلافية مثارة، وفق معيار أحادي الرؤية، حتى إن أدى بهم ذلك إلى التورط في تبرير مواقف “الحشد الشعبي” الطائفي في العراق مثلاً، أو الاصطفاف وراء جماعة الحوثي الآتية من القرون الوسطى، ناهيك عن الفاسد علي عبدالله صالح، وليس فيروز وحدها فقط، طالما أن في الأمر ما يخدم وجهات نظرهم السياسية المسبقة.