لن يكون بمقدور القوى الدولية أن تغمض عينيها عما يجري في فلسطين؛ عاجلا أم آجلا ستفرض التطورات نفسها على الأجندة الدولية، والسنة الجديدة ربما تكون سنة فلسطين بامتياز.
حتى أسابيع قليلة، كان الاعتقاد بأن الهبة الفلسطينية أو انتفاضة السكاكين كما تسمى، ستذوي مع الأيام، وتعود الحياة في ظل الاحتلال إلى رتمها المعتاد. وقيل أيضا إن تهدئة الأوضاع في القدس المحتلة، والكف عن استفزاز المصلين في المسجد الأقصى، سينزع فتيل المواجهة.
لكن مع مرور الوقت تبين عدم صحة هذا التقدير. القدس لم تكن سوى الشرارة، وقد تجاوزت الهبة لحظة القدح، فتوسع نطاق المواجهة بالسكاكين لتشمل معظم المدن الفلسطينية، فأصبحت الهجمات على جنود الاحتلال والمستوطنين هى الرتم اليومي لشبان الهبة.
الهبة الجديدة بأساليبها وقواها أنهت حالة “الستاتيكو” القائمة منذ سنوات طويلة، وأحيت القضية الفلسطينية من جديد.
بالنسبة لقلة من المراقبين كان هذا التحول مفاجئا في الحالة الفلسطينية، لكن التقديرات العميقة من جانب الخبراء، كانت تحذّر على الدوام من لحظة الانفجار. انهيار مسار الحل السياسي، وانعدام أفق السلام العادل، ومواصلة إسرائيل سياسة ابتلاع الأرض وبناء المستوطنات، والتنكيل بالشعب الفلسطيني، سيفضي حتما للمواجهة.
لم يكن لأحد أن يحدد مسبقا الكيفية التي سيكون عليها رد الفلسطينيين الشعبي؛ انتفاضة على غرار ما شهدنا من قبل، أم عصيان مدني، أم خيارات أخرى لم نعهدها؟
بالنتيجة كان خيارا غير مسبوق دشنته قوى شابة ليس لها ارتباط بالفصائل السياسية المعروفة؛ شبان بلا تاريخ حزبي أو خبرة في المقاومة المسلحة، يحملون السكاكين وينزلون إلى الشوارع للانتقام من المحتلين. وفي بعض الحالات استخدم مقاومون الدهس بالسيارات كسلاح إضافي.
بدا الجميع في حالة ارتباك؛ قوات الاحتلال التي وجدت نفسها في حرب مع أشباح، لا مرجعيات تنظيمية لها، وقيادة مركزية يمكن الانتقام منها. الفصائل؛ فتح وحماس أصابها الارتباك،ولم يكن أمامها من خيار سوى الهرولة خلف القوة الجديدة الصاعدة في المشهد الفلسطيني. قوات الأمن الفلسطيني كانت عاجزة عن التعامل مع الظاهرة، بإجراءات استباقية؛ فكل شاب يسير في الشارع هو مقاوم محتمل، فهل تعتقل شعبا بكامله؟!
حاولت الإدارة الأميركية وبالتعاون مع إسرائيل والسلطة الفلسطينية احتواء الموجة المتصاعدة، لكن جولة وزير الخارجية جون كيري فشلت في ذلك. الدبلوماسية الدولية المنهمكة في أزمات سورية والعراق واليمن وليبيا، والحرب على الإرهاب، راهنت على يأس الفلسطينيين في مزاحمة الصراعات الساخنة والمناطق الملتهبة. بيد ان مسار الأحداث يشير بوضح إلى نية الفلسطينيين تحدي المقاربة السائدة، وفرض قضيتهم العادلة على قائمة الأحداث العالمية.
هناك ألف سبب يحول دون قيام انتفاضة شعبية في فلسطين؛ بمعنى مواجهة شاملة ومفتوحة مع الاحتلال. الكلفة ستكون باهظة في ظل ميزان قوى مختل فلسطينيا وعربيا. لكنْ ثمة نهج جديد وخلاق؛ الطعن بالخاصرة، إيلام يومي للمحتلين، يذكرهم بأن لاحتلال واضطهاد شعب صاحب حق كلفة لابد من دفعها في كل لحظة. وإذا لم يستفق العالم لقضية هذا الشعب، ويتحرك لإنصافه، فإن العام الجديد سيكون عام السكين الفلسطيني.