من الجيّد أن تستفيد الدولة من خبرات وحنكة جيل مخضرم من السياسيين لإدارة شؤون الدولة وفي أبرز مؤسسات القرار، مثل رئاسة الديوان الملكي ورئاسة الوزراء وفي مجلس الأعيان والمؤسسات الأخرى المختلفة في الدولة، فهذا الجيل يتوافر على خزّان من التجارب التاريخية التي مرّت بها الدولة خلال العقود الماضية، وما حملته من تحديات كبرى.
لكن المعضلة تبدو في أن نرى العودة إلى هذا الجيل المخضرم لا تتوازى أو تتزامن مع بروز جيل جديد من السياسيين الشباب، القادرين على تجديد الدماء في عروق المؤسسات السياسية ومراكز القرار، ممن يمتلكون رؤية سياسية جديدة مطلّة أو مشتبكة مع الشريحة العظمى الشابّة من المجتمع الأردني اليوم، الذين لا يجدون تمثيلاً حقيقياً لهم في مؤسسات القرار والدولة، أو نموذجاً ناجحاً على هذا الصعيد.
بالضرورة، هنالك اليوم مجموعة كبيرة من الشباب التكنوقراط، في الحكومة والمؤسسات الأخرى، وبعضهم وزراء ومسؤولون، لكنّ الجفاف الحقيقي لدينا أو الشعور بالهرم يتمثل في الجانب السياسي تحديداً، فإدماج جيل جديد من الشباب في العمل السياسي الرسمي، أو حتى بروزهم على الصعيد السياسي الحزبي يكون محدوداً للغاية.
هل ثمّة نضوب في الحياة السياسية عموماً أدى إلى هذا الشحّ في بروز القيادات السياسية الشبابية الجادّة؟ وهل يعود ذلك إلى ضعف البنية الحزبية أم عدم قدرة ديناميكيا الدولة على تقديم هذا النموذج من القيادات وتصعيده في مواقع القرار في الدولة؟ أم أنّ المسألة مرتبطة بضعف حلقات الصلة والاتصال التي تربط المؤسسات الرسمية بالمؤسسات الأهلية والمدنية والأحزاب ما يسمح ببروز هذا الجيل الشبابي الجديد؟!
المفارقة أنّ ديناميكيات الدولة كان مشهوداً لها، خلال العقود السابقة، في قدرتها على التقاط الجيل الشبابي الجديد من ذوي النزوع اليساري أو الإسلامي أو حتى القومي وهضمهم ضمن النموذج الأردني، فتجد مسؤولين من خلفيات فكرية وسياسية مختلفة، يجددون الدماء في خطاب الدولة ويساهمون في تطوير قدرتها على التواصل مع الشارع والمجتمع، ويبنون الرواية الرسمية بصورة جديدة وفعّالة، وهو أمر يكاد يكون غائباً اليوم؟!
عندما تتابع اليوم المشهد السياسي لا تعجز عن رؤية جيل جديد من الشباب المتميز، من يمثلون خطاباً سياسياً عقلانياً واقعياً وطنياً، من مختلف الاتجاهات، الليبرالية والإسلامية والقومية، ولديهم رؤى إصلاحية رحبة، لكن المشكلة أنّ هنالك ضعفاً كبيراً في قدرة مؤسسات الدولة على تجسير العلاقة معهم، فيما وقف قانون الصوت الواحد، خلال 13 عاماً عائقاً أمام هذا الجيل الجديد والطريق الطبيعية له للعبور عبر الحزب أو الجامعة أو النقابات أو اتحادات الطلاب أو حتى مؤسسات الدولة البيروقراطية ليصل إلى مواقع المسؤولية أو التمثيل البرلماني.
من المهم أن نتنبه إلى هذه الفجوة الكبيرة اليوم في هرم الدولة وفي خطابها السياسي، لأسباب جوهرية، أولاً لأنّ لدينا شريحة واسعة من جيل الشباب اليوم تعاني ظروفاً قهرية تخلق أزمات ومشكلات، وهؤلاء بحاجة إلى جسور تواصل مع الدولة عبر من يمثلهم في مراكز القرار العليا، وثانياً لأنّ الدولة نفسها بحاجة إلى التجديد والتجدد والتطوير ليس فقط في التنمية الاقتصادية والاجتماعية بل في الخطاب السياسي والإعلامي، وأن تصهر الجميع في بوتقة خطاب تعددي وطني لا يقصي أو يخرج أحداً من هذا الإطار.
ليس أمراً مستحيلاً أن نرى مسؤولاً كبيراً، مثل رئيس وزراء كندا أو المسؤولين الشباب الأوروبيين، بل هو ممكن جداً، وعلامة صحة وقوّة لأي دولة ومجتمع، لكن من المهم قبل ذلك إعادة النظر في الشروط والروافع التي تخلق هذا النموذج الذي يمثّل القدوة الغائبة لدى جيل الشباب اليوم.